كيف جمعت مدينة فاس بين عالمين مختلفين في يوم واحد؟
عزالعرب لحكيم بناني
كان صباح يوم 20 فبراير موعدي مع زيارة لقلب المدينة القديمة، لحضور ندوة علمية حول التراث والتاريخ الإنساني من خلال الأوقاف والأعراف، بمناسبة إصدار كتاب الأستاذ محمد اللبار في الموضوع؛ وكان مساء يوم 20 فبراير موعد الدّعوات إلى وقفة احتجاجية بالمدينة الجديدة من أجل رفع المطالب الاقتصادية والاجتماعيّة، نتيجة غلاء الأسعار والبنزين وحالة التوتُّر الشديد النّاجم عن تضاؤل فرص الشُّغل ومشاكل البيئة والعنف الحضري، ومشاكل تدبير المدينة، وما إلى ذلك. وجدت نفسي أمام عالمين مختلفين؛ أمام عالم لا تزال فيه ذاكرة التراث مقترنة بالحنين إلى ماضٍ ولى إلى الأبد؛ ووجدت نفسي ما بعد الظُّهر أمام عالم آخر لا يزال فيه الأمل في المستقبل مقترنا بالخوف من المجهول. استحضرت في نفس اليوم الواحد عالمين مختلفين، عالم الصباح وعالم المساء، ولكنهما متنافران. كيف نجد بينهما أشكال تقاطع؟ لا شك في أنَّ الشعور بالحنين عند أهل الصباح لا يلتقي أبدا مع الخوف من المستقبل مع أهل المساء؟
هل توجد إمكانات الجمع بين الحقِّ في الحنين والحق في التحذير من تخوُّف مستقبل غامض لبطالة الشّباب؟
لا أخفيكم أنني كنت سعيدا بحضور ندوة فكرية في قلب المدينة القديمة جمعت الجمعيات المدنية وأساتذة مادة الاجتماعيات بالمدينة والتلاميذ بمدارس هامش المدينة وطلبة الجامعة والباحثين في علوم الآثار والمتاحف. ولا زلت أعتقد أنَّنا في حاجة إلى تغيير الصّورة النمطية التي أنجبتها فاس يعيون السياحة الأجنبيّة. وإذا كانت العناية المَلَكيّة بفاس ظاهرةً في كلِّ المآثر التّاريخية التي تخضع للتّرميم، فإنَّ دور الثقافة هي أن تصرِفَنا عن تقمُّصِ عيون السّائح الأجنبي وأن ننظُرَ إليها بعيوننا؛ دور الثقافة هو أن تصرِفنا عن تقمُّصِ عيون مخرجي الأفلام والمسلسلات التّاريخيّة، حتّى لا تتحوَّلَ ساكنة المدينة القديمة ذاتها إلى صورةٍ من الماضي. استبشرت خيرًا حينما استمعت إلى ندوةٍ تحدّثت عن التضامن الاجتماعي الذي حافظ على المدينة وعلى ساكنتها من الاندثار، في وقت لم تكن الدّولة تملك ميزانيّة عامّةً لتدبير شؤون البلد كما هو معروف اليوم. عادت بنا الندوة إلى أوقاف المرضى والمجانين بماريستان سوق الحنة وتجهيز الموتى وإلى أوقاف مؤنسي المرضى في « تهليل » الصوامع قبل الفجر، والمبادرة إلى فك الضائقة المالية وإلى أوقاف الغرباء المعوزين والمكفوفين وفك الأسرى، وما إلى ذلك.
عندما يَجُول المُؤرِّخُ بين أحياء فاس القديمة، يعلم جيّدًا أنَّ أيَّ مكان فيها يذكِّرُه بمراحل زاهية في الأوقاف المُحبَّسة على المساجد والمراحيض والمستشفيات وعلى مشرب الكلاب والقطط وما إلى ذلك، حتى ولو اختفت معالم تلك الأمكنة وانمحت صلتها بالوقف. غير أنَّ المؤرِّخَ المختصَّ لا يحتفظ في ذاكرته إلا بالموروث المادي أو الرمزي الذي يستطيع البرهنة على وجوده بالوثائق التاريخية. فهو يتكلم في حدود الوثيقة ويقترن الحنين لديه بمراجعة بطون الكتب التي تتقاطع فيما بينها في تدوين مختلف أشكال الوقف.
يظلُّ المؤرّخ مقيَّدًا بالوثيقة التاريخية ومشدودًا إلى الماضي ولا يحقُّ له أن يستشرف مستقبلا في علم الغيب ولا وثيقة له تؤيّده. ولذلك، يظلُّ السؤال قائما: هل يمكن التأريخ للمستقبل؟
قد يكون هذا هو المعنى الذي قصده ماركس بالقول، لقد كنا إلى حدِّ اليوم نقوم بتأويل التّاريخ، ويجب علينا اليوم أن نغيِّرَهُ. كيف نكتب اليوم تاريخ المستقبل إذا لم نقارن بين المستقبل الذي نتج عن تاريخنا الذي يعود في مراحلنا الزاهية إلى المرينيين، وهُمُ الذين اعتنوا عناية باهرة بفنون الزخرفة والإبداع وبناء المدارس، والمستقبل الذي نتج عن تاريخ البلدان الأوروبية التي عرفت أشكالا متماثلة أو مختلفة من الأوقاف وبناء المستشفيات والمدارس، لاسيّما في ظلِّ المسيحية. ولا شكَّ في أنَّ الخدمات العموميّة والوظيفة العموميّة في فرنسا قد انتقلت من les secours publics إلى le service public؛ ولا شكَّ في أنَّ العناية بالفقراء قد انتقلت من الإحسان والشفقة إلى ظهور الحق في الصحة والشغل والتأمين والمساعدة الاجتماعية. إذا ما نظرنا إلى أشكال التضامن التي عرفتها البلدان الغربية بصور متفاوتة خلال بداية النهضة والعصر الحديث، سنرى أنها استطاعت أن تُعَلمِنَ أشكال التضامن وأن تخرجه من لبوسه العقدي aime ton prochain ! إلى إطار مدني يقوِّي الجانب الإيماني بمعطيات قيم جديدة. وهكذا قد نجد أشكالا متماثلة من الوقف، ونتائج مختلفة في بناء المستقبل.
وعليه، أفهم معنى الحنين وهو الارتباط العاطفي بماضٍ ولّى إلى الأبد، ولو أنّني أعتقد أنَّ الدراسة المقارنة لما حدث في الغرب قد يُطلعُنا على سرِّ تأمين المستقبل من جانب ودفن المستقبل من جانب ثان خلال العهود الماضية، ولاسيما مع الحماية الفرنسية.
قد تسمح الدراسة المقارنة بين المغرب وما جرى به العمل في بعض البلدان الغربية بتجاوز نظرة الحنين ومعرفة كيف نظر مفكرو النهضة والحداثة إلى الجوع والفقر والمرض، وكيف واجهوا المجاعة والحروب والبطالة؟
أعتقد أن الدّراسة المقارنة تستطيع أن تجمع بين قيم ندوة يوم 20 فبراير في الصباح، وآفاق المستقبل القاتمة التي نبّهت إليها الوقفات الاحتجاجيّة السّلميّة في المساء. وإذا كنا نعلم أنَّ نسبة الشّباب الفاعل والحيوي تتجاوز ما تعرفه الدّول الغربيّة، فإنّنا سنعلم قيمة هذا الرّأسمال البشري وأهميّة استثماره في بناء المستقبل. نحتاج إلى تفعيل مجالس الشّباب والمستقبل من أجل الاستفادة من الطاقات في مجالات كثيرة لا يريد الكهول أن يتخلوا عنها.