الخطابة الشعبوية لبنكيران تحت المجهر
عبد العزيز الطريبق؛ في 26 مارس 2022
صدر عن منشورات « باب الحكمة » كتاب « الخطابة السياسية الشعبوية عند عبد الإله بنكيران »، لمؤلفه محمد الأمين مشبال وقدم له الاستاذ الكاتب عبد القادر الشاوي الذي يقول: « هذا الكتاب في الخطاب الشعبوي، بحكم منهجه، له قيمة نظرية خاصة، غير مسبوقة في جوانب كثيرة »…
الكتاب مستخرج من البحث الذي سبق لمحمد الأمين مشبال أن قدمه لنيل شهادة الدكتوراه في البلاغة وتحليل الخطاب وعنوانه « بلاغة الخطاب السياسي السجالي عند عبد الإله بنكيران »، ضمن وحدة البلاغة وتحليل الخطاب بكلية الآداب بمرتيل. وهو البحث الذي تسبب تأجيله (بعد أن كان مدرجا بتاريخ 27 دجنبر2019) في نقاش « هادر » عم المواقع ووسائل التواصل الاجتماعية وقتها. طبعا استنكر العديد من المتدخلين قرار « التأجيل » الذي كان يشبه المنع في البداية (ولحسن حظها تداركت إدارة الكلية الأمر فيما بعد). كما « استكثر » البعض على « خطاب » بن كيران أن يكون محط دراسة وانهال طرف آخر بالسب والقذف في حق مؤلف الأطروحة، دون قراءتها طبعا ومع الوقوف فقط عند عنوانها ضمن فهم تقليدي لمفهوم « البلاغة » وكأن البحث انكب على تمجيد « ترهات » بنكيران الفكرية والسياسية…
قدم محمد الأمين مشبال بحثه ونال شهادة الدكتوراة عن جدارة واستحقاق مدة بعد ذلك…
وقد جاء عنوان الكتاب الحالي لكي « يطمئن »، منذ الوهلة الأولى، كل من يخشى « تمجيد » بنكيران ، إذ صب مباشرة، وبعيدا عن « المحسنات » اللفظية الأكاديمية، في الموضوع: « الخطابة السياسية الشعبوية عند عبد الإله بنكيران »، فنحن هنا أمام تشريح خطاب سياسي مغرق في الشعبوية أغرى العديد من المواطنين، بمن فيهم بعض المحسوبين على تيارات فكرية مناقضة له والذين اعتقدوا أنه « وقف » فعلا في وجه « التحكم » وغير ذلك من الخزعبلات.
التاريخ لا يرحم، وقد أعطى حكمه الأول في حق « تجربة » عبد الإله بنكيران الحكومية، ومازالت البلاد تجتر بعض ويلات تسييره. تعطيل لمقتضيات دستور 2011 التقدمية وضرب المكتسبات الاجتماعية لفئات واسعة من المغاربة تطلب تحقيقها سنوات طويلة من النضال. تنفيذ سياسة رأسمالية متوحشة لم تقو على ممارستها حتى الحكومات التي كان يقال عنها بأنها حكومات « إدارية ». الاهتمام المبالغ فيه بالمصير « المادي » لوزرائه وصحبه والافتخار بما حققوه بفضله. ضعف « البروفايلات » المقدمة للاستوزار ولتقلد مناصب عليا في جهاز الدولة… وفوق هذا وذاك ارتماءة انتحارية غير منطقية سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا بمناسبة تشكيل الحكومة بعد انتخابات 2016 أدت ل »بلوكاج » دام خمسة أشهر من الحياة السياسية للبلاد في فترة حرجة اجتماعيا… وكان من المنطقي أن يلفظ من سدة الحكومة لكي يتفرغ لاستكمال مطبخ بيته…
يتناول الكتاب تجليات الخطاب السجالي لديه والاستراتيجيات الخطابية التي اعتمدها للتأثير في الجمهور. كما انطلق المؤلف من فرضية مركزية مفادها أن الشعبوية، باعتبارها أسلوبا سياسيا في تعاطي أوضاع اجتماعية وسياسية تطبعها أزمات هوياتية وخيبات أمل من واقع معين، تمثل السمة المهيمنة على الخطاب السياسي لعبد الإله بنكيران. كما اعتبر أن « تواصله السياسي يتغذى ويتلون بالمرجعية الدينية وتحديدا بالخطاب الوعظي، مما يميزه عن باقي الخطابات الشعبوية في أمريكا اللاتينية وأوروبا ».
وقد قسم المؤلف كتابه إلى بابين: الباب الأول عالج في فصله الأول مفهوم الشعبوية وخصائصها استنادا على دراسات كتاب بارزين في المجال مثل باتريك شارودو وألكسندر دورنا وإرنست لاكلو ووجان ورنر ميلر. ثم خصص فصله الثاني لاستعراض تجربة حزب العدالة والتنمية من حيث المسير الفكري الذي أفضى به للقبول بمؤسسات الدولة وبإمارة المؤمنين وكذا تجربته السياسية منذ تأسيسه والتي توجت بتوليه رئاسة الحكومة لولايتين متتاليتين.
أما الباب الثاني فقد توجه إلى تحليل الإستراتيجيات الخطابية المتضمنة في المتن الذي يتكون من عديد من الخطب التي ألقاها بنكيران في مناسبات مختلفة وعلى مدى زمني يناهز سبع سنوات. وقد قام المؤلف بتقسيم الباب الثاني إلى فصلين: الأول يستعرض أخلاق الخطيب والتجليات المختلفة لذاته عبر خطبه، أما الفصل الثاني فقد خصص لتحليل تجليات أخلاق وصورة الخصم عبر تحليل خطب بنكيران نفسها.
في الختام عرض المؤلف محمد الأمين مشبال الاستنتاجات التي توصل إليها انطلاقا من البحث والتي تمثل أبرزها في كون بنكيران في تواصله السياسي يتوسل بلغة بسيطة وسهلة الفهم بالنسبة للجمهور الواسع، وبكون « تضحيته » باللغة العربية في خطبه « أملته قواعد التواصل السياسي التي تفرض على الفاعلين السياسيين التوجه إلى الجمهور بلغة عادية ومفاهيم مبسطة حتى تصل الرسالة وتكون مفهومة من طرفه ». فاللغة السياسية للخطيب بنكيران ليست محايدة أو خاضعة للصدفة ولاهثة خلف الأحداث، بل هي عفوية و مدروسة في نفس الآن.
كما أن بنكيران حسب المؤلف « استثمر بشكل جيد الوسائط الجديدة التي تحقق » الفرجة السياسية Politique Spectacle، ليضمن الانتشار الواسع لخطاباته مسنودا في ذلك » بتواصل سياسي منظم وجيد للحزب ».
في الأخير تطرق المؤلف لإشكال يهم الاختيار الديمقراطي لحزب العدالة والتنمية ومدى عمق المراجعات الفكرية التي قام بها في تسعينيات القرن الماضي من أجل تسهيل والولوج للعمل السياسي الشرعي، بحيث تساءل المؤلف إن كان يتعلق الأمر بتكتيك سياسي أو بما يمكن تسميته بــ « فقه الضرورة » لتهدئة مخاوف وهواجس التيارات الليبرالية والعلمانية التي تتهم بنكيران والحزب بمحاولة « أخونة » المجتمع فيتساءل المؤلف، « هل تواري الشعارات البارزة لحركات الإسلام السياسي من الخطاب السياسي للحزب من قبيل « الإسلام هو الحل » و »تطبيق الحدود » أو « الخلافة » الإسلامية، وتلقيحه بمصطلحات مأخوذة من معجم الفكر السياسي الحديث من قبيل الديمقراطية والمجتمع المدني، اختيار مؤقت محكوم بموازين القوى السياسية، وانتظار توفر الشروط الموضوعية والذاتية لبعثها من بطون كتب الفقه وبلورتها في قوانين وإجراءات عملية تتنكر لكل ما سبق؟.
بارتباط مع ذلك يتساءل المؤلف « إلى أي مدى يمكن الاستعانة بأطروحات الباحث باتريك هاني في تفسير اتجاه حزب العدالة والتنمية للتأقلم مع نتائج التحولات التاريخية والسوسيولوجية والسياسية التي عاشها المغرب منذ الاستقلال؟ بمعنى آخر ما مدى قدرة هذا الحزب الذي يتقاسم مرجعيته الفكرية مع عديد من حركات الإسلام السياسي « المعتدلة » التأقلم مع إكراهات العولمة وما ترسخه من هيمنة للنموذج الرأسمالي، وذلك عبر إنتاج خطاب سياسي جديد يشرعنه وبناء على ذلك هل سيتحول إخوان بنكيران، بحكم صيرورة الاندماج التدريجي في مختلف مؤسسات الدولة، وما يصاحبها من فئات مستفيدة من ذلك، من النموذج القطبي، إلى إسلام محافظ أخلاقيا، ومنتصرا لليبرالية المتوحشة في منظوره وبرنامجه الاقتصادي؟ »
في ختام الكتاب خصص المؤلف عدة ملاحق مهمة، يتعلق الأول منها بدلالات الأسماء والأعلام في خطب بنكيران، والثاني حول تعاليق القراء على أطروحة الدكتوراه في وسائل التواصل الاجتماعي، أما الملحق الثالث فقد خصص للعديد من خطب بنكيران التي ألقاها ما بين 2011 و2017 والتي كانت موضوع قراءة وتحليل الباحث محمد الأمين مشبال.
ومن باب التذكير، فإن البحث، كما الكتاب المستخرج منه، أنجز قبل السقوط المروع لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، وفي هذا السقوط شكل آخر من اشكال الرفض المجتمعي للخطابات الشعبوية التي لا تنتج سوى جعجعة بلا طحين…