الفكر المدني وعوامل الردة في المجتمع المغربي (الجزء الثاني)

الفكر المدني وعوامل الردة في المجتمع المغربي (الجزء الثاني)
شارك

المنظار ( الجزء الثاني )

الأستاذ سعيد ألعنزي تاشفين في هذه المقالة الثرية يسلط الضوء بالمواكبة الفلسفية والفكرية  لمظاهر تفكك هيمنة اللاهوت السياسي في أروبا وما اعتمل فيها عبر التاريخ، من تحولات مست في جوهرها نظم العلاقات الاجتماعية، وما رافقها من تيارات فكرية انتصرت في نهايتها للفكر العقلاني كما انتصرت لتحولات طبقية نمت على أنقاض الفيودالية.

هذا التقديم الثري في رصد للتحولات الكبرى بأروبا، يجعل منه الأستاذ سعيد تاشفين، مدخلا لفهم طبيعة المجتمع المغربي وهذا العناد القوي الذي أنتج مزيدا من الأعطاب..

وهي أعطاب استدعت التشريح لمراحل من تاريخنا الوطني نترك تأملها والنقاش حولها للمثقفين والمعنيين بقضايانا السياسية والاجتماعية الراهنة.

ونظرا لخصوبة الموضوع وثراه المعرفي ارتأينا تقديمه على ثلاثة أجزاء.

بقلم د. سعيد ألعنزي تاشفين

وبدل أن يتشكل المجتمع المدني كسلطة قائمة مستقلة بما هو ثورة ثقافية بيضاء، أضحى مسرحا لشرعنة النكوصية النفسية التي تتشكل عبر كل البنيات :قبليةً، و أثنية ، وباطرياركيةً ، وأوليغارشيةً – نخبويةً ، ومجاليةً عضويةً وفق جاذبية السرديات الكبرى الملازمة للذات الجمعية كما أنتجها المشترك التقليدي، عبر زمن تاريخي طويل تداخلت فيه سياقات الأرض الموجهة بمتلازمات السماء المحدودة تحت تأثير  » ما اجتمعت أمتي على ضلال « ، وتشكل على إثر ذلك نظام التماهي مع التخلف وشرعنة ظلام الكهف كآلية بسيكولوجية دفاعية على نقيض سيطرة  » الكفار  » وتفوقهم مع ما نتج عن ذلك من جروح نرجسية عميقة ومن هزائم نفسية وخيمة. وعليه فالفاعل المدني استنتاجا مهما تبجح بخطابات التغيير والحداثة يظل حبيس رود فعل بسيكو – عقدية تعاند التحول من منطلق دعم تحول آخر مضاد ومؤسّس وفق محددات الدفاع النفسي التعويضي، والذي لازم تجلي صدمة الحداثة في سيكولوجيات الأفراد والجماعات، مع ما ترتب عن ذلك من قراءات رومانسية للتاريخ ، وبشكل مستمر في الزمن البسيكولوجي إلى الأن .

 ونعتبر أن تفكيك خطابات الفاعل المدني من حيث المغزى والدلالة تنتهي بنا وفق قواعد التحليل الكمي والكيفي ، الاستنباطي والاستقرائي، للخطابات المعتمدة ، إلى ضبط تفاصيل خطابات ترددية ارتكاسية تؤسّس على لبنات الاستعلاء الاثني أو تفوق الانتماءات المجالية الضيقة ، أو تصريف عقد التاريخ القديمة – الجديدة بما يجعل الفعل المدني مجرد تحديث شكلاني لعمق تقليداني ارتكاسي جامد، رغم خدعة الشكل وبريق الواجهة.

لذلك تظل سلطة الفعل المدني غير قادرة على مواكبة تحرر المواطن بمقياس المحاجة العقلانية في توظيف الفضاء العمومي واقتسام رمزية السلطة الثقافية ، حتى إن تعميق البحث في حقل المجتمع المدني يبرز أننا أمام خطابات أحيانا شوفينية – فاشيستية تقدم الفاعل فيه كذات منطوية على تجربتها النفسية الضيقة لدرجة حصل فيها تمثل الفعل المدني بجمعيات  » القصور  » و  » الدواوير  » و  » الأحياء  » و  » الفخذات  » و كل الانتماءات الضيقة التي نجحت في تحديث القبيلة..

 ولكل ذلك تجد الفاعل المدني ينتصر بهوس باطولوجي لمجاله بشكل يجدد الروابط التقليدانية مع التاريخ ومع الجغرافيا بعيدا عن أنسنة الفكرة المعيارية المسنودة على العقل كما أكد فريديرك هيغل، والتي تحوّل الفرد إلى مواطن تربطه علاقة تعاقدية مع المجال و مع الأغيار بصرف النظر عن هوس الانتماءات التقليدية.

و نصادف، مثالا لا حصرا ، عبارات مثل  » بلادي هذي / تاريخ جدودي / بطولات الأجداد أو هزائمهم / جمعية ولد العم / من العائلة / شركنا الدم / رضعاتو مِّي / الزواج والمصاهرة/ العار / التاريخ / الذاكرة / الهوية / الدم / البشرة / القبيلة / العائلة / إغراءات الريع / البحث عن  » لهمزة ، الأنا الأعلى ..  » ؛ و هكذا مع باقي الانشطارات الانقسامية من الماكرو إلى الميكرو وفق شروط الجدل اللّولبي المسيَّج بالتضامن العضوي، ووفق محددات الفهم الانقسامي للمجال المشترك، و كلها تفرز أنماط خطابية لتشكيلات ذهنية تحن إلى الماضي التليد وفق ميكانيزمات التضامن النفسي من أجل شرعنة التخلف في سياقات الراهن، ثم بناء عليه ييسّر تبرير الاغتيال المعنوي للرموز البديلة التي تتموقع من داخل الحداثة، ووصمها بما يزكي قوة الآليات الدفاعية داخل متاهات الكهف الرافضة لأي تجديد . ويبدو أن الجمعيات تتشكل لدى الأغلبية تحت نبض الجمهور والعامة كبنيات قبلية قديمة – جديدة تُعتمد كمداخل لتدبير الصراع وتوجيهه بما يتنافى كليا مع فكرة المواطنة المتعالية عن العرق واللون والجنس والدين والمجالية الضيقة، لصالح العقل المنفلت عن كل الوصايات والضوابط النكوصية..

 وهذه المرة يتشكل كتعاقد سياسي – مدني ماهيته القاعدة القانونية بشروطه المتعارف عليها وفي مقدمتها المساواة والتجرد.

 وأمام سوء فهم المدنية إذن كثقافة جديدة كُنهها المواطنة العادلة والخضوع لسلطة القانون، تُصادف جمعويين متخصصين في تصفية الحسابات مع مجالات أخرى بديلة، وفق قواعد العار كمفهوم أنثروبولوجي ثابت ، التي تحتفظ بها الذاكرة الجماعية في أرشيف الأفراد، وهو ما يجعل مختلف التوافقات والإصطفافات إما عرقية أو سوسيو – إثنية ( قوة الجماعة ) ، أو مجالية محدودة في وحدة الانتماء إلى المكان نفسه ( ولاد لبلاد / الدم / الأجداد / الوهم ) ؛ حتى أن كل الصراعات التي تحرِّض الهمم وتدفع بعديمي الذكاء مجتمعيا إلى الخوض في مشادات حادة تعزى بتفسير واحد هو تصفية حسابات الماضي المركب، لكن بتجديد الشكل وبأدوات صراع حديثة ( الجمعية ، النقابة ، الحزب ، حقوق الإنسان .. ) وبتحديث أدوات الصراع هذه يحصل التحايل المتحول بمضامين ثابتة مناقضة لماهيات المواطنة المدنية كشكل مضبوط بقواعد معيارية  » السّتيزن شيب / المدينة = المواطن  » المختلف كليا عن محددات الهابيتوس التقليدي المختبر الفرد لصالح سيولة الظاهرة الجمعية كما وضح إيمل دوركهايم

. وهنا بسيكولولوجيا تتشكل تحالفات هشة في العمق وصاخبة في الشكل لتخويف الخصوم والتأثير عليهم في أفق استدراجهم بما يحُول دون تدفق خطابات العقل وبما يمنع إنتاج نسقيات راهنة بديلة عن دوغماىيات الفهم ، ثم لإخضاعهم فيما بعد وفق قواعد الإصطفافات الإرتكاسية التي يسمح بها الحقل الجماعي في ظل بنية معقدة وضاربة في التخلف والنكوصية الرمزية في مستويات تلاث : الضغينة أولا ( الحقد على المختلف ) ثم الوعي الشقي ثانيا ( محاولة احتكار الشجاعة وتبخيس المختلف ) ، ثم المثل الأعلى الزهدي ثالثا ( كل الشرعيات الميتافيزيقية / السماء ، العرق، الطوطم ، الباطريارك ، التاريخ ، الدم ..) ؛ بمعنى أن الذاتية المفرطة تأتي كمقدمة لمختلف المعارك الملطخة بالعار بإيعاز من أوبئة نفسية مجالية مستعصية عن العلاج الفكري لكونها تكتسب قداسة وهمية وبتحفيز من لدن صناع الفرجة المؤدى عنها في قوالب الحروب بالوكالة بما يجعل الفعل المدني مسرحا لكل المعارك الرجعية المسنودة بالأمزجة التقليدية رغم بريق الحداثة التي لا تتجاوز سقف التكتيك كسلاح يوظف للحسم مع الخصوم واغتيالهم معنويا.

و لا يمكن للإصطفافات إلا أن تنتهي إلى حائط الموت نظرا لكون فكرة المدنية تنعدم إلا في مستوى خطابات استعلائية عدوانية تستقطب الضحايا ليشكلوا قذائف الهون في حرب الجهل المركب وفق المحاجة التقليدانية (الإنسان الأعلى عرقيا، وغرور المواقع، على نقيض الإنسان الأدنى المصاب بمرض التاريخ و الساعي دوما إلى الانتقام ) التي تجعل ممارسة السلطة المدنية واستنزال شرعية السياسة قائمة على التأويل الرجعي – النكوصي للمزاج الفردي داخل توافقات العنف الرمزي الممارس ضد المختلف ضمن محدودية الحقل لا ضمن رحابة الفضاء العمومي .

    و إذا كان الفعل المدني فلسفيا مرتبط بحجة التنوير على أساس اللغوس الذي هو كل إنتاجات العقل كتجلي عقلاني لأزمنة جديدة قوامها احترام الفرد الذي تحول إلى مواطن يكتسي قيمة عليا ومركزية جوهرية في نسقية التعاقد وعلى طول كل امتداداته القانونية ، رغم كل الاختلافات الجوانية، كما أكد ماكس فيبر ، لكونه المحك الحقيقي لاختبار نضج النسق كما أكد بودون، فإن السياق يجعل الفاعل المدني رجل القبيلة المغوار الذي يقاتل الأعداء بشهامة للظفر بلقب البطولة كفارس  » المدينة  » / القبيلة المقدام ؛ حتى إن « المناضل » في معرض دفاعه عن الحق في التنمية كاختبار حقوقي، يجعله يؤسس ترافعه على وهم  » ولد البلاد / هذي بلاد جدودي / الأرض ديالنا / وغيرها من الدفوع التقليدية !! . و هنا ، وفق آليات اشتغال الوهم الجمعي، يشكل تدمير المختلِف أهم مؤشر للفحولة الأخلاقية لدى ضحية الهوس الباطولوجي ( الباناروا / وهم التفوق – جنون العظمة كما تسنده آليات الإرتكاسية كما حددها نيتشه في مستوى الضغينة أولا ثم الوعي الشقي ثانيا ) الذي يدفع بصاحبه إلى خوض معارك حامية الوطيس، بحسابات الصراعات المخدومة في الغرف المغلقة ، وفي كهوف الأنا الأعلى الجمعية التي توظِّف الرجعية لمحاصرة الحداثة، والتي تعاند التحول في محددات النسق لصالح جمود البنية ضمن حتميات الذاكرة الجماعية، عبر تهور الفرد المدفوع جمعويا كقربان في حروب الرجعية والتقليد لصالح زعماء الفرجة والفلكلرة المعادية بشكل ممنهج لانبلاج الحداثة، كنمط فكري جديد متحرر من كل الوصايات وخاضع لحجة التعاقد الديموقراطي كما تضمنه القاعدة القانونية وتحميه . ونلاحظ سوسيولوجيا، إن كثيرا من خطابات النخبة، التي تتبجح بالحظوة الأكاديمية بمنطق سيكولاستيكي محدود، لا تتجاوز تصنيفات العرق واللون والمجال وكل أنماط السلطة الرمزية التي كانت للقبيلة كبنية عضوية موغلة في النكوصية، أو البحث عن موطئ قدم، في قوالب الربح ضمن لعبة الشكلانيات الفارغة باستحضار ذكي للمواقف العرضانية كبنية فكرية جديرة بها صناعة اصطفافات اليوم، وتصريف مواقف ذاتية ضاربة في القهر النفسي رغم قوة التدليس على الحداثة. بمعنى إن تتبع المواقف الفكرية لدى نخب التحول الشكلاني،  يبرز حجم الرجعية المختبئة بين سطور الحداثة الممكن وصفها بالمغشوشة، لدرجة أن دعم طرف على نقيض أطراف أخرى في ساحة التدافع  » المدني  » ، الجمعوي أو السياسي أو النقابي ، لا يؤسّس على فكرة المنطق العقلاني وحجية المواطنة ، بل ينبني على ردود فعل ظرفية جامحة حيال سلوكات بائدة مجحفة من أبطال التاريخ / الوهم الذين ينتقمون من الماضي بشكل ما ويتيحون لضحاياه رد الصاع صاعين في معركة تصفية الحسابات في مجالات التنافس والراهن الذي تتاح فيه امكانية استخدام كل الأسلحة بما فيها النيل من الأموات واسترجاع خيباتهم واستثمارها في معارك التموقع اليوم باسم التنافس الديموقراطي المجتث انتروبولوجيا عن كل القواعد النظرية القيمية المعيارية، كما تلملم أجزاءها فكرة المواطنة و كما تصون هويتها نظيمة الحداثة .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *