مسؤولون جامعيون أميون
المنظار
مقال جدير بالقراءة، لأنه يكشف وبجرأة عن اختلالات باتت في زمنا هذا تستوطن الجامعات التي ظلت منذ نشأتها حاملة لمشعل الثقافة العقلانية، وهي مهام وقع فيها تراجع كبير وخطير، وهو التراجع الذي مس بالأساس، مكانة المثقف العربي داخل سياقات تعمل على التشجيع والترويج لثقافات التف اهم وبقوة لم نشهد لها مثيلا فيما سبق.
بقلم الدكتور السعيد بوطاجين
كان في نيتي أن أكتب هذا المقال من عقود حتى أضع النقاط على الحروف، لكني تحفظت مرارا احتراما لهذه المؤسسة التي انتميت إليها من 1977، كطالب ثم كأستاذ، ولولا مغالاة بعض المحسوبين على الجامعة في الجهل والاستعلاء لما فعلت ذلك أبدا. لقد دفعني هؤلاء إلى الجهر بالحقيقة الصادمة لأتبرأ من هذا العمى.
رؤساء الجامعات الذين يدّعون أنهم علميون، ضالعون في الفيزياء والرياضيات والكيمياء والهندسة، وما شابه ذلك من التخصصات الدقيقة، ينظرون إلى الفلسفة والفنون والعلوم الاجتماعية والإنسانية والاقتصاد واللغة العربية والعلوم السياسية واللاهوت والدرس الفقهي باحتقار، معتبرين أنفسهم كبارا، كما لو أنهم اكتشفوا كواكب جديدة وصنعوا عود ثقاب أو إبرة أو ورقة.
هؤلاء يعتبرون الفرنسية هدفا، وهم يتكئون عليها للتباهي، دون أن يقدموا شيئا للكتاب والبحث. لقد وصلوا إلى الشهادات عن طريق استنساخ البحوث الغيرية، واستولوا على المسؤوليات بفضل الموالاة للأنظمة، للجماعات الضاغطة، وللأحزاب السياسية الفاشلة، مع استثناءات قليلة.
يجب تذكير هؤلاء بأنه لا يوجد رئيس جامعة واحد في فرنسا لا يعرف بالزاك وراسين ورامبو ومدام دو ستايل وفيكتور هيغو، ولا يوجد رئيس جامعة في روسيا لم يطلع على مؤلفات تولستوي وماياكوفسكي وبوشكين وتشيخوف وآيتماتوف ودوستويفسكي وكارل ماركس.
لقد قال الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران إني أعتبر الكاتب الروسي سولجنتسين أكبر مثقف في القرن العشرين. هل تسمعون به أيها العلماء الكبار الذين اكتشفوا مقاس حذاء البرغوث؟ وقبله رفض الجنرال ديغول قمع مظاهرة فانسان التي شارك فيها الفيلسوف جان بول سارتر ونخبة من الأدباء والمفكرين الذين اعتبرهم أساتذته،وروح فرنسا وحضارتها؟
أذكّركم أيها العلماء أنه عندما توفي الكاتب الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز، صاحب جائزة نوبل، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما الذي كان مدمنا على قراءة رواياته: لقد خسر العالم اسما كبيرا يتعذر تعويضه.
هل كان الرئيس الأمريكي أقل قيمة من رؤساء الجامعات المتخصصين في الكيمياء والفيزياء والتبعية إلى الأحزاب الأمية؟ كما حولّ الرئيس الكوبي فيدال كاسترو المقهى الذي كان يجلس فيه أرنست هيمنجواي إلى متحف وطني للحفاظ على ما كان يكتبه على الحائط من ملاحظات ذات قيمة أدبية وتاريخية لأنه كان يدرك أبعادها الفنية والفكرية، ولو كنتم مكان فيدال كاسترو لحولتم المقهى إلى مكاتب للكسل والنميمة، وهل تعلمون أن اسم ابن خلدون منقوش على حائط البانتيون قرب جامعة السوربون بباريس؟ مع أنه لم يكن فيزيائيا مثلكم أيها العباقرة.
رؤساء الجامعات في ألمانيا يعتزون بأنهم ينتمون إلى بلد شهد ظهور غوتهوغانتر غراس وهرمان هيسه وأحد رواد فلسفة الجمال السيد هيجل، غوته نفسه كان يعتز باللغة العربية والأدب العربي القديم الذي تأثر به في كتاباته، وفي مسرحية فاوست الشهيرة. لا يوجد رئيس جامعة واحد في العالم لا يعرف أرسطو وبيكاسو وسالفادور دالي وسيغموند فرويد وداروين.
رؤساء أمريكا كلهم قرأوا ما كتبه جاك لندن وفوكنر وهنري ميللر، الانجليز يحفظون مسرحيات شكسبير، أمّا أنتم فتعتبرون العلوم الاجتماعية والإنسانية ومختلف الفنون دروشة لأنكم اخترعتم مطاحن للكلام. من لا يعرف هذه التخصصات كيف يمكنه أن يكون بشرا سويّا يدرك أعماق النفس البشرية وكيفيات التواصل؟ مؤهلا لتسيير عقليات وتوجهات وحساسيات؟ لقد وصل الغرب إلى الاهتمام بعلم نفس وسيمياء الحيوان، وأنتم؟
أذكّركم أيها الكبار بأن المفكر فلاديمير لينين قال عن رواية الأم لمكسيم غوركي إنها تمثل نصف ثورة 1917 لما فيها من وعي حاد أثر في المجتمع برمته، كما كتب الزعيم نهرو إلى ابنته أنديرا بعد اطلاعه على ألف ليلة وليلة: “إن مملكة الخيال أصدق وأبقى من مملكة الواقع والحقائق”. هل أنتم أعلى شأنا من لينين ونهرو؟ أمّا فرنسا فحولت بيت ستاندال، صاحب الأحمر والأسود، إلى مزار عالمي، رغم مواقفه الصادمة.
الفلسفة والآداب وعلم النفس وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والرسم واللوحة الزيتية والمسرح وسيمائيات التواصل والسينما والسيميولوجيا والجغرافيا والتاريخ والأنثروبولوجيا وعلم الجمال مفاتيح قاعدية للمعرفة، لترقية الوعي، لتهذيب الوحش الذي يسكن في أعماق كلّ منا عله يرتقي إلى مرتبة الإنسان.
أمّا الرياضيات وحدها فلا تكفي لنصبح مثقفين وبشرا يفهمون مجتمعاتهم ويعملون على ترقيتها وتحصينها، الفيزياء مهمة كتخصص، الكيمياء أيضا، علوم الفضاء، الهندسة، مع أنّ هذه العلوم في الغرب تعيش متناغمة مع بقية المعارف قاطبة، دون أن تكون متعالية ونرجسية، كما تفعلون أنتم، مع أنكم لا تطالعون ولا تنتجون شيئا.
هكذا صنعتم عمداء ورؤساء أقسام ومسؤولين امتدادا لكم ولمنطقكم، فكيف تريدون من الطلبة أن يكونوا مختلفين عنكم؟ وكيف ترغبون في بناء جامعات راقية، مهتمة بالقراءة والبحث والجهد والاختراع؟ بالكتاب، بالجدل، بفهم الذات، بمعرفة ما يجري في العالم وأنتم القدوة لا تعرفون سوى الاستعلاء والاجتماعات المضرة بالبيئة؟ حالة مرضية تستدعي علاجا فوريا.
عندما أسمعكم تتحدثون بيقين العلماء يخيل إليّ أنكم من عالم آخر، من قارة أخرى، من أمريكا أو أوروبا مثلا، كما لو أنكم قدمتم للبلد كلّ الاكتشافات والحلول بلغتكم التي اتخذتموها متكأ لتمرير الفشل الناعم، لذلك أردد باستمرار ما كان يقوله الكاتب الانجليزي الساخر برنارد شو شفقة عليكم وعلى لغتكم الفرنسية التي تعدّ أعظم اكتشاف: “كان تولستوي مثلي، لا يؤمن ببعض الخرافات، مثل الطب والعلم مثلا”.
أقصد علمكم المتعالي، المريض بالجهل، وبكل الأوبئة، مع فائق التقدير للاستثناءات النادرة.