شحاذ أنيق
يكتبها لكم شيخ القاصين عبد الحميد الغرباوي
روى لي، كاتب صديق هذه الحكاية:
انطلقت من سؤال:
ماذا لو قمت بالتجربة لكن بطريقتي الخاصة، من خلال ما تراكم عندي من تأملات ومعلومات وخلاصة مثبتة بالدليل والبرهان؟..
المدينة تعج بهم إناثا وذكورا، ومن مختلف الأعمار..
وحيثما ذهبت، أو وقفت، أو جلست تجدهم قبالتك، حذاءك، خلفك، يقطعون عليك حبل تفكيرك، أو يحدثون فجوة، أو عثرة في حديث تجريه عبر الهاتف أو مع جليسك في سطيحة مقهى، أو وأنت تجادل بائعا جدالا محموما أن يراجع ثمن بضاعة رفع من ثمنها وأنت تعرف أنها دون ذلك، و يصر على ألا يخفض من ثمنها لمعرفته أنها نادرة أو مفقودة في السوق..
دائما أتساءل من أين يأتون إلى مناطق العمارات والمتاجر والمقاهي العصرية الحديثة زرافات ووُحدانا وينتشرون في الدروب والشوارع والمنعطفات.
و دائما أتساءل عن المقدار الذي يحملون من الدراهم معهم مساء إلى بيوتهم.. طبعا لديهم بيوت، ليسوا كلهم متشردين، وقيل لي إن بعضهم يملك عقارات وسيارات، وبعضهم مريض بجمع وتكديس المال فقط، لا يستفيد و لا يفيد، و لا يستمتع به و من منا يجهل الكم الهائل من أنواع وألوان المتع المغردة، الراقصة في الحياة !
و هُم أصناف.
صنف ينفرد بأماكن معلومة جوار الصراف الآلي، أو مدخل متجر للمواد الغذائية أو واجهة مطعم أو محل المعجنات و الحلويات، وصنف يفضل الانتقال من مقهى إلى مقهى، وهذا الصنف، بحكم الزيارات المتعددة للمقاهي، يتجنب روادها المواظبين على الجلوس فيها ، يغض الطرف عنهم، و لا يقصد إلا الغرباء. ، وهو في الطريق منتقلا من مقهى إلى مقهى، لا يترك الفرصة تضيع من بين يديه، فلعل من بين المارة من قد يستجيب له..
ثمة أصناف أخرى، منها صنف يكشف عن عيوب و تشوهات جسدية إما خلقية أو ناتجة عن حوادث، إلا أن بعض التشوهات تكون مصطنعة لا يتقن مثلها إلا المخرجون في السينما والمسرح.. غير أن الصنف المؤلم بل الأشد إيلاما، ذاك الصنف الذي يستغل الأطفال الصغار..
يصعب عليّ منظرهم..
أيها المجرمون ! إن مكانهم الطبيعي في المدرسة وليس في الشوارع..
وكل هذه الأصناف وغيرها، تكون حزينة، مغبرة الوجه، مرتدية رث الثياب، كما لو أنها اجتمعت واتفقت على ذلك…
ليس في نيتي إعطاء تفسير للظاهرة..
طبعا لدي تفسيري الخاص، لكن المقام لا يسمح بذلك، أنا هنا لا أحلل، بل أحكي عن تجربة قمت بها بعد أن فكرت طويلا وخططت، لكن تخطيطي للأسف لم يكن محكما.
أعترف أنه لم يكن تخطيطا محكما، لأنني في العمق لم أكن مقتنعا بالتجربة، لكني كنت قد صممت، و من طبعي حين أصمم لا أتراجع..أتقدم إلى الأمام و ليقع ما يقع..
كانت طريقتي الخاصة تتمثل في ألا أغير من طبيعتي شيئا..
باختصار شديد أن أبقى كما أنا، وجهي باسم حليق، رائحتي طيبة، لباسي أنيق، وأحمل، كما العادة، كتابا في يدي..
قصدت منطقة بعيدة عن المتسولين الذين اعتاد الناس رؤيتهم يذرعون الدروب والشوارع جيئة وذهابا. و أول ما صادفت في طريقي مقهى..
وقفت في تردد إزاء زبونين، سيدة وسيد، مددت كفي.. مدت السيدة يدها ظنا منها أني أريد السلام عليهما، فاعترض السيد طريق يدها إلى كفي..
عرف قصدي و مطلبي.. و بحركة من يده، طالما استعملتها في صرف الشحاذين وإبعادهم عني، أشار علي بالانصراف..
كان الجو في المقهى مرحا، يغرد فيه المطرب الفرنسي شارل أزنفور، ومع ذلك كنت أشعر بالجو كئيبا..
أية ورطة أوقعت فيها نفسي ! ..
لكن لابد من الاستمرار في التجربة..
أحسست بأني، من الوهلة الأولى، أصبحت محط اهتمام الزبائن..
هذا صنف جديد من الشحاذين..عصري، حداثي، ويحمل في يده كتابا..
لماذا حرصت على حمل كتاب في يدي !
أ لم أقل لكم إن طريقتي الخاصة كانت تقتضي ألا أغير شيئا من طبيعتي؟..
انتقلت إلى مائدة أخرى و نظرات السيد والسيدة تلاحقني..
مددت كفي إلى مائدة يجلس إليها على ما بدا لي سائحان أجنبيان، ابتسما في وجهي، لعلهما ارتاحا إلى منظري.. وهكذا حصلت على أولى ثمار جهدي: قطعة نقدية نحاسية براقة، عشرة دراهم بالتمام والكمال..
وأنا أنتقل إلى مائدة أخرى، إذا بنادل أسمر طويل القامة في الثلاثين من العمر، يستوقفني قرب مائدة يجلس إليها كهل:
ـ أ مثلك يشحذ ! أ من في شاكلتك ينحدر إلى هذا الدرك !؟
اقتربت أكثر منه وقلت له في ما يشبه الهمس:
ـ أ هذا سؤال أم تعجب؟
ـ كلاهما..
قلت ودائما في ما يشبه الهمس:
ـ أ من الضرورة أن يكون المتسول وسخا، شعتا غبرا لكي يستدر عطف الناس..
وأتممت كلامي في داخلي:
» ثم ما الحكمة أو الهدف من هذا العطف؟ « ..
لاحظت أن الكهل كان ينصت إلى حوارنا وهو في حالة استغراب. خمنت أنه متقاعد، لعله كان موظفا في إدارة عمومية، أو أستاذا أو مديرا في إحدى المؤسسات التعليمية..و فوق كل تخمين، خيل إلي أننا تقابلنا في ثانوية… لعله كان مديرها..
تدخل الكهل، غير مكترث بوضعي، يسأل عن نوع الكتاب الذي أحمل في يدي فابتعد النادل وأنا ألحظه يختار زاوية مصوبا هاتفه في اتجاهي..
كنت أود أن أتمادى في تمثيلي، لكن هيئة الكهل كانت من النوع الذي يفرض عليك الوقار والاحترام، فمددت له الكتاب مبتسما، دعاني إلى الجلوس، قرأ العنوان، استأذنني في تصفحه.. وهو يقلب صفحاته، قال:
» هل أنت بخير كاتبنا العزيز؟ «
أ لم أقل لكم إن مخططي لم يكن محكم البناء؟..
لم أضع فيه حسابا للوجوه التي قد تتعرف علي، ولا حسابا لكاميرات الهواتف التي قد تلتقط لي صورا وتنشرها في رمشة عين على صفحات الفيسبوك ..
و ها هي ذي النتيجة.. ها هي ذي صورتي الآن منتشرة في المواقع الاجتماعية تحت عنوان:
» شحاذ أنيق »..
ــــــــــــــــــــ
ملحوظة: أردت أن أعيد العشرة دراهم للسائحين، فوجدتهما قد غادرا، فأعطيتها للنادل الذي اعتذر لي وشكرني.. وغير مستبعد أنه من بين من سارعوا إلى نشر صورتي و أنا أشحذ..