التهامي السالمي: الحضور المتواصل عبر ذاكرة عيطة (الجزء الثالث والأخير)
المنظار: مرة أخرى مع الباحث التهامي حبشي في قراءته للموروث الشعبي واستنطاق ذاكرته في روابطها بالتصوف، أنها العيطة الثقافة الشعبية المتجذرة في الوجدان المغربي، لمنبسط تامسنا حيث السواكن والبراولن ترحل بنا إلى حضرة الأولياء وكراماتهم مع الاستمتاع بكل هذا الزخم باستخدام نقرات الطارة والبندير على نغمات ألى الوتار والصوت الشجي للتهامي السالمي. ونظرا لطول مادة البحث ارتأينا تقسيمها إلى ثلاث حلقات.
مهداة إلى الشريف العزيز سي أحمد بوكطاية…
وإلى كل الشرفاء من أبناء السوالم، والخيايطة، والساحل أولاد حريز الغربية…
الموشومين في القلب و الذاكرة…
أما على مستوى القعر الإيقاعي، فإن أهزوجة « السوالم شرفا » تمشي على إيقاع خبب أو هزج العد أو التعداد، إنها قصيدة تمشي على إيقاع الترداد والتعداد، مما يكسر رتابتها، ويجعلها من خلال الغالب في مقاطعها، قصيدة متحركة في المكان والزمان ( وإلى تميتو جايين/ جيبو معاكم الغليميين). إنه عد وتعداد وإحصاء ( أحصاهم ربك وعدهم عدا): فالمنشد أو الشاعر المتغني يعد ويحصي صلحاء وشرفاء البلاد، على إيقاع سريع، عندما يبدأ في ذكر وتعداد أسماء بعض النساء السالميات الشريفات الصالحات ( السالميات، مواليات الكرمة، مواليات الحنة، حمرات الروس،لالة نبكة، حنة القراقفية، الكحيلة المكية، حليمة الحرشاوية، زهيرو الحداوية، عايشة والسعدية…) يسرد أسماؤهن أو كناياتهن ويذكرهن تباعا، على إيقاع شبيه بإيقاع الرثاء، كما في بنية قصيدة الرثاء في الشعر العربي القديم. وذلك باعتماد التقسيم المقطعي الصوتي في البيتـ بهدف تكرار وحدة نغمية، تصور حركة الشعور والانفعال المتصلة بطقوس الحزن الذي يؤدي إلى الندب وبكاء على الأموات. وتعتبر الخنساء* ( شاعرة الرثاء الكبيرة في كتاب المراثي من ديوان العرب. قتل أخوها معاوية في بعض الحرب فارتفع نشيجها وبكاؤها عليه، ثم قتل أخوها صخر، فاتسع جرحها فندبته بقصائد رائعة في باب المراثي.راجع في هذا الصدد: الخنساء، ديوانها، حيث نجد مراثيها في أخويها صخر ومعاوية. (شيخو، الأب لويس، مراثي شواعر العرب، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1897)، أكثر شواعر العرب اعتمادا على هذا التقسيم النغمي الانفعالي، الذي ينبعث من الترديد أو الترجيع الصوتي في تكرار نغمي، يصور حركة التموج النفسية الحزينة التي تطفو من أعماق النفس، في تتابع هادئ يوحي بالحزن الكظيم واللوعة الشديدة العظيمة » ( أ.د. قصي الحسين، أنثروبولوجية الأدب، دراسة الآثار الأدبية على ضوء علم الإنسان، دار البحار، دار ومكتبة الهلال، الطبعة الأولى، بيروت،2009، ص.358). ولما كان موضوع الرثاء غرضا من أغراض الشعر العربي المرتبط بإذكاء الحماسة في الحروب وأخذ الثأر للفرد أو الجماعة (القبيلة) عند العرب القدامى، فقد عمد شعراؤهم إلى رثاء أبطالهم في قصائد ملحمية حماسية تثير مشاعر قبائلهم، فعمدوا إلى تمجيد خلالهم، ووصف مناقبهم التي فقدتها القبيلة بفقدهم… وكان يشرك الرجال في ذلك النساء، فقد كن ما ينحن على القتيل حتى تثأر القبيلة له… فكانت الخنساء تخرج إلى سوق عكاظ تندب أخويها صخرا ومعاوية…وكانت النساء تطيل ندب موتاهن إلى سنين معدودات. وكان ذلك دأبهن على القبر وفي المجالس والمواسم…وقد تطور الرثاء من مجرد تعويذات كانت تقال على جثمان وقبر الميت حتى يطمئن في لحده، إلى تصوير حزنهم/ن العميق إزاء ما أصابهم به الزمن في فقيدهم، فغدت تلك التعويذات، وخاصة عند النساء، بكاء ونواحا وندبا حارا ». (ضيف، د. شوقي، العصر الجاهلي، دار المعارف بمصر، 1971ص.207)
ولهذا، فلا غرابة أن نجد بأن غناء الثنائي « التهامي السالمي ومحمد السالمي » غناء بدوي فطري لا يخرج عن ذاك العيط الرعوي البسيط، المتغنى به ساعة الفرح ( الأعراس والمواسم) أو القرح (الجنائز وطقوس الحداد والموت)، والذي هو في الأصل عبارة عن هزج قريب من الرجز، أو ما يسمى بالخبب * ــ ( يرى د. شوقي ضيف » أن الغناء الجاهلي كان على ثلاثة أوجه، هي النصب والسناد والهزج. أما النصب فكان يخرج من أصل الطويل في العروض، وكان السناد كثير النغمات والنبرات. أما الهزج فكان يرقص عليه، ويصخب بالدف والمزمار، ومعنى هذا أن اقتران الرقص بالغناء والشعر غريق القدم… فقد كان الطبيب والكاهن والساحر الذين يمثلون أصل الشاعر، يتغنون بأشعارهم » وكأنهم يريدون أن يستكملوا بالغناء نقص التعبير الموسيقي في أشعارهم بما يضيفون إليه من ذبذبات التغني ورناته المنتظمة. وهو إحساس دقيق بأن الموسيقى لب الشعر، وعماده الذي لا تقوم له قائمة بدونه »، (ضيف، د. شوقي، فصول في الشعر ونقده، دار المعارف بمصر،1971، ص.29 ــ ). فالهزج. ولعل الغناء المغربي العربي الأولي، في نمطه العيطي الهلالي يضرب بجذوره الأولى إلى زمن التكوين الأسطوري في الفكر والمعتقد عند العرب، كان قد ارتبطت موسيقاه تاريخيا لا بالغناء وحده، بل وبالرقص أحيانا، بشكل يكون فيه الإيقاع تواتريا، يثير الشجن والحنين، وساحرا وأخاذا كإيقاعات التعاويذ والطقوس في جو أسطوري ( م. ل . روزنتال، الشعر والحياة العامة، ترجمة إبراهيم يحيى الشهابي، وزارة الثقافة بدمشق، 1975ص.93.). ولهذا فإن الهزج، أو الخبب الراقص، يسير فيه المنشد والعازف على إيقاع سلم موسيقي بسيط يتميز بالميلوديا الأحادية أو الجملة الموسيقية الوحيدة، أي ما يرمز إليه أكاديميا بميزان 6/8، وهو ما يعرف لدى العامة من الشيوخ ب « البم » أو « الحاشية » أو » ثلاثة حمص جوج فول »، وهو عبارة عن ميزان راقص كان المغاربة، برجالهم ونسائهم وأطفالهم، يغنون ويرقصون على إيقاعه في ترديد الأهازيج والبراويل في ساعات الفرح ( الأعراس والمواسم واحتفالات الأعياد الدينية)، أو في لحظات القرح (مناحات الحداد والدفن و مواكب الجنازات والبكاء على الأموات). وغالبا ما يبدأ الأداء، عزفا وندفا، لدى الثنائي السالمي، كغيره من ثنائيات شيوخ الطارة والوتارــ التي ظهرت خلال فترة ما بعد الاستقلال بربوع الشاوية ودكالة وعبدة، وتادلة وورديغة والغرب…، بإيقاع موسع ونداء بصوت متوسط، سرعان ما يبدأ في الارتفاع، وصولا إلى الحدة ساعة الإشراف على النهاية، ليعود إلى انصراف سريع، أو « سوسة » سريعة، شبيهة ب »الدريدكة » في فن الملحون، وذلك ساعة الإقفال أو الانتهاء بسدة أو قفل بإنشاده: « صليوا على النبي والناس الحاضرين ». وقد انتشر هذا النمط الغنائي الشعبي التقليدي بالمغرب في فترة ما بعد الاستقلال، امام ضمور أو تقلص فرق الشيخات بسبب تأثيرات إيديولوجية الحركة الوطنية، وظهور ما يعرف ب « الثنائيات الرجالية » التي تؤدي براول عيطية، بسيطة وقصيرة، على إيقاعات الوتر (لوتار) والطارة (البندير) بنغمة واحدة على ميلوديا واحدة ووتيرة واحدة لا تتغير. و هو نمط غنائي قديم، كما يرى الأستاذ العرف بجغرافية
وإثنوغرافية وميلوديات العيطة بالمغرب، الشيخ الباحث محمد بوحميد، كان فيه الإيقاع موجودا من قبل، وعلى منواله أدت الشيخة المرحومة فاطمة الزحافة من منطقة أولاد سعيد بسطات خلال الستينيات من القرن الذي فات بروالتها الصوفية » الزاوية مانا ساخي بك/ سخاك الزمان علي ». ويرجع هذا النمط إلى غناء يسمى « الهوير »، تصغير للغناء « الهواري »، المتواجد بمنطقة أولاد تايمة ومنطقة « الفريجة » شرق تارودانت، وبعض الجهات، الأخرى المجاورة، حيث انتقل مع بعض العمال المياومين والحرفيين إلى مدينة مراكش. وغناء الهوير، يضيف بوحميد، هي الأم، هو جذر غناء العيطة، فهي الأولى، وهي البسيط في غناء العيطة، التي ستتطور إلى عناء مركب. ولذلك جاءت الأغنية من الهوير عبارة عن بروالة عيطية بسيطة ثنائية الإيقاع، تنحصر فيها كل جملة موسيقية بزمانين ربع زمن موسيقي، على إيقاع ميلوديا موسيقية واخدة ووحيدة من البداية إلى النهاية، وما يتغير فيها فقط هو الميزان الإيقاعي الذي يكون في البداية ( المطلع أو الاستهلال) موسعا لينتقل شيئا فشيئا ليصبح عند الانصراف أو « السوسة » في اتجاه القفل أو « السدة ». ( حوار محمد الغيذاني مع الباحث ذ.محمد أبوحميد، أرشيف الإذاعة والتلفزة المغربية، أكتوبر 2001).و غالبا ما يتوسل غناء الهوير إلى استعمال الآلات النفخية، كالناي أو القصبة ( الليرة) أو (لفحل)، أوالشبابة (الغيطة) و » المكرونات »، وهي آلات لم يتم استعمالها في المرحلة الأولى ( الأحيدوسات) قبل انزياح القبائل الأمازيغية المصمودية واعتصامها بالجبال الأطلسية، حيث لم يكن عند المغاربة إلا الغناء والتوقيع بالأقدام والأيادي، أي التصفيق، وبعد ذلك ومع وفود العناصر العربية الهلالية الأولى إلى بلاد الهبط وتامسنا (الشاوية) و دكالة وعبدة والحوز..طور المغاربة أدواتهم الموسيقية، إذ يرى الباحث محمد بوحميد، أنه من المؤكد، من خلال النصوص التاريخية، أن آلة » المكرونات » مثلا لم تدخل من ضمن الآلات التي جاءت مع القبائل الهلالية الوافدة من الشرق على المغرب خلال القرن السابع الهجري، وإنما هي من صنع مغربي، والدليل على ذلك الأجزاء المكونة لها، فهي عبارة عن قصبتين تحملان ثقوبا تنتهي ببوق مصنوع من مادة الكرن ( قرن كبش أو ثور) تخرج السلم الموسيقي السباعي، وهي وسيلة غناء الهوير.( حوار محمد الغيداني مع ذ.محمد أبوحميد، أرشيف الإذاعة والتلفزة المغربية، أكتوبر 2001).
على هذا النمط الغنائي الإنشادي والموسيقي، يتوسل غناء الثنائي السالمي إلى آلتين موسيقيتين تقليديتين ــ من نتاج الطبيعة الغابوية والرعوية ـ مصنوعتين من الخشب والجلد، هما: آلة (الوتار الرباعي) كأدة موسيقية، وآلة الطارة أو البندير كأداة إيقاعية. والأداتان معا ترافقان الإنشاد أو الغناء، وفق حركة تكرارية لليد والجسد. بحيث نلاحظ أن هذا الثنائي الغنائي العفوي وكأنه يريد أن يستكمل غناءه البسيط بإيقاع موسيقي يساعد على الترجيع والتنغيم لإثارة وجلب لب السامع أو المتلقي، من خلال ميزان تكراري رتيب يتحرك معه
الجسد والرأس أماما وخلفا، صعودا وانحدارا، لخلق التوازن الإيقاعي على المستوى النفسي والاجتماعي. فغذا ما علمنا أن « الحركة نفسها متواجدة في الحياة وسابقة للكلمة..فالإنسان البدائي عبر عن نفسه أولا بالحركات التي أصبحت إشارات بالنسبة لبطانته..معروفة من قبل من حوله ومفهومة من قبل إخوانه في العرق والقبيلة. كانت تثير لديهم تأثرا جميلا في طبيعته لان المرء لا يحسن التجارب إلا مع ما يستطيع تكراره ما دامت الإشارات تفعم الفجوة التي تنفتح بين الإدراك والفكر. وكل إشارة مسبوقة بامتصاص عميق ملء الصدر، وهو أول طور من الإيقاع التنفسي لان التنفس كما يقول ريلكيه مهد الإيقاع يتيعه، بعد فترة تمثل الأكسجين، زفير يعبر عنه بشكله الأكثر بدائية بصيحة. وهذه الصيحة الزمن الثالث للإيقاع التنفسي وأول ظاهرة حياة الطفل الوليد، تدل على أن كل فعل منحة من الذات وأن على كل إنسان..أن يزفر لكي يعمل. إنه يستخدم احتياطه من القوة ليخلق تبعا لقانون ترمز إليه الخرافة الهندوكية بالنوم الكوني « لبراهما » الذي يخلق من كل زفير عالما يمتصه الشهيق التالي بالإيقاع ألفي حتى إعادة خلق جديد. وإذا كان جوتيه قد افترض أن » البداية كانت الفعل »، فإن هانز فون بولو فضل بحق « إن البداية كانت الإيقاع » ما دامت كل حركة أو إشارة اضطرابية في بدليتها تتحول بالتكرار إلى إيقاعية، وكل إيقاع يتحكم بالإستمرارية اللازمة لكل فعل وبتحوله اللائق وانتشاره في المناطق النفسية والفكرية للمخلوق. ص.13 وإيقاع لشخص يحدد حاله، إنه ثابتية في حركية، « دورية نفسية » كما يقول المتمرسون باليوغا. » لوك، بنوا، إشارات، رموز وأساطير، تعريب: فايز كم نقش، سلسلة زدني علما، عويدات للنشر والطباعة، الطبعة الأولى، بيروت، 2001، ص.ص.13-14.
لقد ظل الفنان الشعبي التهامي السالمي تجسيدأ حقيقيا لفن شعري شفاهي غنائي وموسيقي تقليدي، يمثل نموذجا واضخا لفن العيطة في أصوله البدوية والرعوية الفطرية، الذي يمتزج فيه النداء (العيط) الطبيعي الصافي، بالأداء الموسيقي البسيط ( لوتار والطارة)، بالإيقاع الجسدي التقليدي، حيث تتساوق حركة اليد بحركة الجسد، وفق أرجوحة بدنية نفسية تسعى إلى تحقيق التوازن الموسيقي والنفسي، وكذا والفني والجمالي، لدى الفنان والمتلقي معا. ولعمري، فتلك كانت هي إحدى وظائف وغايات الفن العيطي الشعبي، النابع من وإلى الوجدان الإنساني العامي، منذ قرون غابرة من التاريخ الاجتماعي والسياسي المغربي، ولذلك فليس من المجازفة القول بأن غناء العيطة هو ديوان المغاربة.