تأملات في بوح استثنائي عن سرديات الحب

ذ/ المختار عنقا الادريسي
تتسارع خطى الحياة، تلهينا عن الإنتباه حتى لأنفسنا وبالأحرى لمن يقاسمنا محطات الحياة، إلى أن نستفيق من الغفوة على أصوات داخلية، تسائلنا: ما الحب؟
* هل هو مجرد تلبية حاجة عاطفية أو جسدية؟
* أم هو تحول إنساني يوقظ فينا معنى الوجود ذاته؟
فلم يعد اليوم كافيا أن نتحدث عن الحب باعتباره علاقة بين شخصين، فقد أصبح من الضروري أن نعيد التأمل فيه كقيمة، كأفق وجودي، كإمكانية نادرة للصعود إلى القمة، لا الهروب منها. ففي هذا الزمن المتخم بالصوت والصورة، المثقل بالقلق والتشظي يبدو الحب الحقيقي بعيدا عن الشهوة أو التملك، ولا حتى العادة – كما قد يفهم البعض -. ولم يعد الحديث عن عشق الروح شيئا تأمليا، بل صار ضربا من مقاومة هادئة ضد منطق الاستهلاك الجاثم على مشاعر الكثير منا. فغدا الحب حضورا داخليا عميقا، نتأمله في أبعاده المختلفة التي تؤطره، فنندفع إلى إعادة ترتيب الأسئلة المتعلقة به وصياغتها كالتالي:
ما الحب الذي يجعلنا أكثر إنسانية؟ يحررنا بعيدا عن كل تقييد؟ ولا يجعلنا نفقد ذواتنا وننتقص من حرياتنا؟ ونقتنع بأنه يبقى حيا على الدوام، حتى حين يفنى كل شيء من حولنا؟
عشق الروح … سردية قد لا تقال.
ونحن نعيش عصرا قد تُختزل فيه العلاقات وتفكك العواطف إلى ردود سريعة غير متزنة، تحفر معها بعض تلاوينه مجراها في العمق، كالنهر السري الذي لا ولن يراه أحد، غير أنه يغذي الفُرْشَات الباطنية. إنه تجربة وجودية، تعيد ترتيب معنى الحب في الدواخل. يجعلك يا أنا تلتقيها ولم تكن هي أو بالأحرى أنتِ، بقدر ماكنتِ انعكاسا لشيء لم أكن أراه فيك، ولم يُرو بلغة الغواية أو الحنين، بل بلغة التطهير الداخلي، لدرجة أني لم أعلم حين التقيتك – ذات يوم من زمان قد ولى – أنني في الحقيقة كنت ألتقي بي أنا. ولم يكن الحب هدفا في حد ذاته، بقدر ما كان طريقا للكشف عن الذات، فصرت مرآة، نداء داخليا، وكأني بك تقولين: لا تراني بعينيك، بل ببصيرتك، وأحببني أمرأة، قضية، فكرة، أملا … شيئا لم تره بعد. وهكذا انقلبت بنية البعد العلائقي بيننا من التعلق إلى التجاوز، من الامتلاك إلى التحر، ولم يعد الحب حدثا بل صار حالة وجودية، تجمع بين هزة داخلية تغير ادراكي للذات وللعالم، ونظرة خارجية، معرفية، تحررية من كل القيود، بابا نحو عمق الذات، لا نافذة على الآخر فقط، كما هو الحال عند الآخرين. وصار قيمة وجودية تمكننا من مواجهة وحدتنا وفهمنا ونضجنا، في زمن صار كل شيء مطبوع بالانا، بالهشاشة، بالزيف، بالمصلحة الضيقة وما يدور في اديمها.
الحب فعل إنساني مقاوم.
اليوم تتكشف عزلتنا، رغم ازدحام حياتنا بأقنية التواصل، وتحت تأثير النفعية وضغط التسارع، ليصبح الحب الحقيقي بمثابة فعل مقاومة ناعم وعميق، مقاومة لفكرة أن الإنسان كائن قابل للتصنيف، للتشييء، للاستخدام، ثم الاستغناء … لم يعد الحب أمرا طبيعيا أو تلقائيا في ألفيتنا هاته، بل صار في جوهره تمرينا ودربة على استعادة الجوهر الإنساني في وجه الخطاب التقني والعلاقات المعلبة والارتباطات النفعية. وأمام كل ذلك، فإن الحب الحقيقي ينبلج كحركة عكس التيار، يعيدنا إلى لغة القلب التي أنسانا الزمن كيف ننطقها، إلى القيم التي تم خرقها والضرب بها عرض الحائط. ومع كل ذلك يبقى الحب:
* ضدا على الفردانية الاستهلاكية، في زمن تُروَّج فيه الذوات كعلاقات تجارية، ويقاس النجاح فيها بمدى الاستقلالية والنفعية، فيصبح الحب مجازفة، فأن تحب يعني أن تتنازل، أن تعترف بأنك لست مركز الكون كما كنته. ويبقى الحب ليس هو التراجع عن الاستقلالية، بل هو وعي جديد بأن الحرية لا تعني الانعزال، وإنما القدرة على التشارك، التقاسم دون خوف أو تهيب.
* صفاء وليس امتلاكا، رغم تحول الكثير من العلاقات إلى مساحات للتفاوض: فمن يعطي أكثر؟ ومن يحتاج الآخر أقل؟ فيَقْترح الحب – كقيمة إنسانية – منطق الإصغاء لا المساومة، بعيدا عن الاستماع للكلمات فقط، بل الإصغاء لوجود وكيان الآخر، لأسئلته، لدجاجياته، لسكينته، لقلقه لحضوره الحقيقي والدائم في عالم يعج بالأصوات وحتى لإشاراته التي لا تقال، ليكون في النهاية سكون وانصات وتقاسم مشترك.
* تجاوزا للهوية المقلقة، لأننا بحبنا للآخر نجد أنفسنا أمام نافذة تجعلنا نطل على ما لسنا عليه، فتتسع الذات دون أن تُمحى بفعل التجاوز المستمر وتخطي حدود اللغة، الثقافة، العادات، التقاليد، الخوف … وحتى الصورة التي كوناها على أنفسنا. ونكون أكثر قدرة على التعاطف، وبالتالي يصير الحب فعلا تحرريا ثوريا، بعيدا عن خاصية » الترف » التي تٌلحق به ويضحى ضرورة وليس مجرد شعور. إنه إعلان بأن الروح لم تٌختزل بعد وأن القلب لايزال قادرا على التوهج في عالم يدعو إلى التبلد. ومن هنا فإن الحب في أعمق تجلياته يبقى مقاومة للنسيان، للزوال، للتشييء. إنه الحياة نفسها.
عندما يتحدى الشعور بالحب حدود.
كلما قيل » الحب » فإن الكلمة تختزل في لحظة أو زمن محدد، يشير إلى اللقاء، الاستمرارية، الذكريات. لكن ماذا لو نظرنا الى الحب على أنه أكثر من كل ذلك؟ ماذا لو كان تجربة تتجاوز كل المتداول، تتخطى كل ما تزخر به الأيام والارتباط والتواصل؟
ان الحب لن ولا يقاس بمرور الزمن، وكأنه ينتقل بالمحبين بين أزمنة متعددة في وقت واحد. فيجعلك تسمع صوت من تحب في لحظات صمت جاثم على الفؤاد، ولا تعرف ان كان هو صوتها أو مجرد
صداه، يأتيك من زمن ضارب بعمق في جذور الماضي، فيتحول الزمن من مجرد قياس مادي إلى حالة شعورية، تسترجع معها كل ما انطبع بالفؤاد، حيث تتراقص الذكريات، تتداخل الأحلام، تغتني التوقعات، وفق ترانيم وسنفونيات يعبر عنها كل المحبين، فَتُصَيِّرُكَ في حالة حلم مستيقظ، يختلط فيه الحالي بالماضي والمستقبل المنتظر، ويصير الحب حالة زمنية تتجاوز كل القوانين والتوقعات، ويجعلك قافزا فوق كل زمان لتتماهى مع من تحب في زمن لا منتهية أيامه، تتلاشى فيه الحدود الفاصلة بين الماضي والحاضر والمستقبل. ويصير معها الحب حالة وجودية بامتياز، تتخطى كل المشاعر العابرة أو الحكايا المروية، لأنه تجربة وجودية تتحدى المنطق الزمني وتفتح الآفاق الواسعة لفهم جديد للعلاقات الإنسانية. فنجد أنفسنا أمام سؤال مؤرق:
كيف يمكن لنا أن نعيش هذا الحب المتجدد، في هذا الزمان المتسارع والمنفتح على مصراعيه؟ علما أن الزمن لا يمكن أن يمحي تلك الذكريات، وإنما يعيد ترتيبها، يشذبها، يعيد تنغيمها. بعد أن تطالها دوامة التلاشي – مع الوقت – وتنزوي ذكرياتها في قعر سحيق … دون أن تختفي، فتصير وشما روحيا لا يُرَى، لكنه يُشعُ من الداخل في لحظات الصمت والتأمل الطويل الذي يولده تعاقب السنين ونحن في حضرة من نحب.
لماذا نحن في حاجة للحب؟
مع مر السنين، تزداد حاجتنا إلى الحب أكثر من أي وقت مضى، لأننا – صرنا – نعيش عصرا طغى فيه التهميش الداخلي المتسارع، فصارت القيم تقاس بالمنفعة، واستبدلت العلاقات الحقيقية بالتفاعلات العابرة والهاربة منا، ليضحي الحب ضرورة وجودية ومساحة أخيرة، قد تحمينا من التشييء، ومن التحول إلى رقم … ملف … صورة نمطية، وبالتالي يغدو هو ذاك الامتداد الذي يعيد لنا إنسانيتنا. وكيف لا ونحن نفهم الحب على أنه فعل مقاومة في زمن يَختزل العلاقات ويحولها إلى استهلاكات متبادلة، فيصبح معها شكلا من أشكال العصيان الهادئ فأن تحب – حاليا – يعني أنك تختار البطء، الاصغاء في عالم الصُرَاخ، أن تمنح وقتك لشخص واحد في حياة تلهت خلف كل شيء، يمنحك الإحساس بأنك لست وحدك في مَتَاهة العالم، إنه يشبه اعترافا غير منطوق، مضمونه: أنا أحسك وأراك رغم كل يُخْفَى أو يُخْفِيك.
فالحب هو ترميم لما تكسره الحياة التي تفرض علينا عزلة مقنعة، نعمل كثيرا، نتواصل أكثر، نطارده الكمال، نهرب من هشاشتنا … وهو في أصله لا يتطلب منا الكمال، يستقبلنا في فوضانا، لأنه المجال الوحيد الذي يجعلنا لا نخجل من ضعفنا، بل نعرضه بفخر أمام من يلمسه دون أي تجريح أو احراج. في هذا الزمن المتخم بالشيء واللاشيء، المفتقر إلى التعقل، المفرغ من القيم … فالحب هو الوحيد الذي قد يعيدنا إلى تلك الحكمة البسيطة التي كانت تسكن وجوه أمهاتنا. ومعه نكون لأجل الآخر، وليس بجواره فقط كما هو سائد الان. وهو من يذكرنا بأن الدفء لا يشترى، والطمأنينة لا تصنع، والمعاني لا تكتب، ولكنها تُعَاش.
الحب قوة خفية لإعادة بناء الذات.
فالحب باعتباره قيمة سامية، ينبغي أن يكون مشروعا أخلاقيا، لا مجرد حالة شعورية فحسب، ويصبح التزاما بالمرافقة بالإصغاء، بالتفاهم، وأن يبنى على شكل أنظمة حياتية داعمة، لا تنهار عند كل محطة وقف، وأن يبقى أحد الثوابت التي تنقذ جوهر الإنسان وتحميه من الذوبان، بل هو قوة خفية تمكننا من إعادة بناء الذات وترتيبها، وتمنحنا الانفتاح على من ينير في دواخلنا مناطق أُطْفِئت بفعل الخوف وتوالي الخيبات وضربات الزمن. فالحب في جوهره لا يعلن عن افتتاح أبواب جديدة، بقدر ما يعيد ترميم أبواب كانت موصدة بالألم، باللامبالاة، باللاشيء فتصير كل اللحظات مندرجة ضمن أفعال التذكر لا الاكتشاف، فنرى الآخر نسختها الحقيقية، معتبرينه حضورا لا شفاء، لأنه لا يعطينا ضمانة ضد الألم، غير أنه يعرض علينا رفقة انسانية ممتعة، ويتواجد معنا حيث يصعب الكلام، لأنه مثل جذور دوحة في وجه العواصف، في زمان التسارع. واختصارا فهو ومضة داخلية، تنير ظلمة أخدت دائرتها في الاتساع. وعندئذ ستناديك الدواخل قائلة: أنا هنا وفيك ولك ومعك على الدوام.
اعتراف هامشي:
من باب الصدق اقول، أن هذا البوح، جاء بمناسبة احتفال رفيقة الدرب بعيد ميلادها الذي يصادف 19 يونيو من كل عام، ولذلك فهو هدية مني إليها خصوصا، والى كل المحبين عموما.