لقاء
فؤاد الجعيدي
الجو شتوي، والسماء فوق رأسي كومة من رماد، كنت أقود السيارة وعيناي على شاشة الهاتف، أتتبع المعلومات عن الطريق الذي سيوصلني إلى سينما الفن السابع كما قالت لي: السيدة.. شاشة الهاتف الذي يعلن فيها صوت امرأة شرقية أني على مقربة من الهدف. ركنت السيارة غير بعيد عن مقهى الفن السابع، رأيت اسم المقهى معلقا على واجهتها الأمامية حين مررت بالسيارة من أمامها.
كان علي أن أركن السيارة، هنا بالرباط ما أصعب أن تجد مكانا شاغرا تلف الأزقة والشوارع، لتجد الفجوة المناسبة لحجم سيارتك.. تركت مفاتيح السيارة لغريب رأيته يرتدي صدرية، وبها شارة على أنه حارس للسيارات، وقلت له مازحا: يمكنك القيام بجولة إلى حين أن أنهي مشواري، صارت السيارة مشكلة وهكذا تخلصت منها ولم أعبئ باحتجاج زوجتي من خلفي ونحن نعبر الطريق إلى الرصيف الآخر.
قلت لها: هذا هو نفس المقهى الذي ضربت لي به السيدة الموعد، لكن كانت كل الأبواب مغلقة، صار المكان ورشا والبناؤون يهدمون الجدران. أه تذكرت بالفعل لم يعد للمقهى وجود أبوابه مغلقة بالسلاسل تكاد تراها خرابا، وقد مر بي مقال يتحدث عن هدم هذا الفضاء..
تلك الرباط التي عرفتها في زمن مضى لم يعد لها وجود، كنت دوما أتسكع في الطرقات بعد انتهاء محاضرات الكلية، قاصدا باب الحد حيث المقاهي الشعبية، التي اعتاد الطلاب على تناول الوجبات بها، سيما في الليالي الباردة، برد الرباط لا يشبهه أي برد، يتوغل في المسام، لذا كنا نتوجه إلى المطاعم الشعبية، لتناول وجبات بأفضل الأسعار والتي تتلاءم مع المنحة التي كنا نحصل عليها من الجامعة كل ثلاثة أشهر.. رباط اليوم صارت مثل المدن الأوربية..
زوجتي كانت لها الرغبة لزيارة المحلات التجارية، اعتادت فيما مضى أن تتسوق من هنا، أما أنا ولجت أول مقهى صادفني، وأخرجت الحاسوب لأستغل هذا الوقت في الاشتغال على الجريدة، لكن اكتشفت أن الحاسوب في حاجة إلى شحن.. سألتني خادمة المقهى عن طلبي قلت قهوة عادية، ثم واصلت هل لك أن تشحني لي الجهاز؟ قالت نعم: حين رأت الحاسوب امتنعت، قالت لي ظننت أنك تريد شحن جهاز الهاتف الخلوي الحاسوب ممنوع.
أشعلت سيجارتي ودخنت بلا معنى، ثم ارتأيت أن أغير مكان جلستي، لأنني لن أكتب، فضلت أن أقترب من الواجهة المطلة على الشارع، أراقب حبات المطر وأجساد المارة.
تلقيت مكالمة من أحد الرفاق يسأل عني، قال لي: لم أجدك في مكانك المعتاد بكابوتشينو. قلت له: أنا اليوم في العاصمة، ظن الدار البيضاء قلت له أكبر وأسمى أنا بالرباط.. مازحته أني جئت العاصمة بحثا عن وظيفة سامية مثلما يفعل كل الناس.
في الرباط، يكفيك ربطة عنق وبدلة زرقاء داكنة وحذاء لامع، ووجه ألمع لتصير موظفا ساميا، لك مكتب ونافذة تطل منها على الناس، وبوابة عليها حراس وتدخل من الباب الخلفي وتخرج منه.. والناس لا يرون صورة وجهك إلا عبر الشاشات وفي نشرات الأخبار، وفي المنتديات ولا يهم ماذا سيحدث؟ وما سيقولونه عنك في مواقع التواصل الاجتماعي؟
يكفي أن تسكن في الرباط لتصير زعيما.
فجاءتني زوجتي، التي كانت خلفهما، اعتذرت لرفيقي وأنهيت المكالمة على الفور.. سيدة في مقتبل العمر، بلباسها الشتوي شعرها أشقر داكن وتبتسم دون انقطاع، أكيد هي التي كلمتها قبل قليل عبر الهاتف المحمول، وهي نفس السيدة التي بعثت لي رسالة، توجه طريقي إلى مقهى الفن السابع، غيرت مكان جلستي وواصلنا السلام والترحاب ببعضنا البعض لم ندرك في تلك اللحظات القليلة والخاطفة مثل خيوط البرق، كنا نتبادل أطراف الحديث ولكأننا نتعارف منذ زمن قديم..
زوج السيدة في قوامه الممشوق مثل محاربي الكوريدا، كان هادئا ووديعا وخجولا، ويحافظ على جمله القصيرة ينتقيها بلطف..
لكن السيدة التي تدعى لالة، رأيت الفرح يشع من عينيها، وظلت تحكي عن أصول العائلة وعن الشرفاء والجد الأول والطباع.. كان كلامها كله حكايات تختلط فيها الطفولة والبيت القديم على الطراز الأندلسي والإخوة والأعمام كيف ماتوا تباعا وتركوا لها حنينا لا يقهر على ذلك الماضي الممزوج بالنخوة والعفة وجاه الأصول.
في بعض المرات كانت الشريفة تروي وتضحك عاليا، قاطعتها أتدرين لما الشرفاء يتمتعون بكل هذه العفوية والبلاهة الطيبة، ولا يحيطون ألسنتهم بالتحفظ.. لأنهم يتناسلون فيما بينهم، جيناتهم من كثرة التكرار والتوالد، تركبت فيها هذه العفوية التي تشبه كثيرا السذاجة، قالت نعم: لكن غضبهم لا يطاق، زوجتي أكدت على القاعدة، قالت لها: كثيرا ما يثور على أبسط الأسباب ومزاجي لكنهما اتفقتا على أن لنا قلوبا طيبة، ولا نحمل الحقد، وقلوبنا لا توجد بها منافذ للكراهية، ونسعى على الدوام لإسعاد الآخرين.. قالت لها: في كثير من المرات احترفت الطلبة من أجل إسعاد الفقراء والمحرومين، تبحث لهم عن المساعدات وعن الدواء الغذاء وتجد متعة في ذلك لا تضاهى بخزائن الدنيا.
في تلك اللحظات رأيت في عيون زوجها، رغبة في أن يحدثني عن الفن وعشقه للغناء، وكان يبدو عليه كمن يتحين فواصل الصمت أو كمن يهيئ نفسه لمرافعة على عادة المحاميين، لكن لسوء حظه كانت السيدة البهية لا تنهي حكاية إلا تدخل في أخرى، حكيها ينساب مثل جداول الماء، لما أدركت المقلب ساهمت معها، في حين ظلت زوجتي تراقب جلستنا بصمت. لكنها في أعماق ذاتها، كانت ولا شك معجبة بالسيدة.
بصوت خافت خاطبني الشاب الوديع زوج السيدة ،عن تجربته في الغناء وقال لي: أنه في العام 2016 حصل على جائزة المغرب للأغنية العصرية.
قبل اللقاء بأسبوع، كانت لي الفرصة للولوج لصفحة السيدة بمواقع التواصل الاجتماعي، وسمعت أشرطة متعددة من ألوان الطرب التي يجيدها الشاب، الذي يحدثني الآن عن مساره الطويل في المجال الفني. كيف اختار الرحيل إلى الشرق العربي، اختار أن يكون سفيرا بآلة العود والرهان على صوته الرخيم في أداء الأغنية المغربية.
في ذاك الشرق قال لي: أن الرواد أدخلوا لغتنا المغربية إلى العادات اليومية للتواصل بين الناس، بل حتى الفنانين العرب صاروا يؤدون ما اشتهر من أغاني البلاد، قلت له ذاك الشرق العربي صارت به مؤسسات كبرى لصناعة النجوم وتسويقها، على نطاق واسع، لكن الوباء أكل كل شيء واختطف منا الحياة، وصارت وجوه الناس مغلفة بالكمامات، وفي كل مكان يحاصرنا التباعد.. نبتعد عن الجلسات الدافئة وتضيع منا إنسانيتنا، الغارقة في صهريج من الأسيد. صرنا مثل الموبوئين نهرب من بعضنا البعض..
لكن لم نأبه بكل هذه الوصايا، والتقينا بمقهى الإمبراطورية، لنتحدث عن الحياة والناس الأحياء والأموات، ونصارع لكي لا تختطف الظروف منا أجمل ما في التلاقي، من تبادل للفرح وتقاسمه مثل قطعة من الحلوى، نسينا الزمن، وصرنا أطفالا لا نخفي حبنا لبعضنا البعض وكانت لفظة ابن عمي تأتي من هذه السيدة التي تشبه منجم ذهب بالحكايات كسهم نافذ. قالت لي: أن أستاذا مصريا في الفن العربي قال لها: أن صوتها نظرتها ووجها يشبه الراحلة شادية وفي المساء جاءني شريط صوتي منها على هاتفي.. وفيه أنامل زوجها الوديع تنسج لحنا بهيجا وهي تغني معه الله عليها زيارة.