رحلات في معرفة الصوفية

القاهرة: أريج عرفة
علاقتي بالصوفية كانت سطحية للغاية في بداية الأمر. كل ما كان يشدني إعجابي الشديد بمفردات لغتها الشعرية، فلغة الشعر الصوفي عميقة، مفرداتها صعبة الفهم، لا تدرك إلا بالمشاعر، تتغلغل داخل أعماق المتلقي فتُدخله في عوالم، تأخذه إلى رحلة وجدانية تسبر أغوار نفسه، تهز قناعاته، تناقش آراءه، وتعيد صياغة أفكاره، ليجد نفسه في دوامة من التشتت والشك واليقين والحب والراحة والألم.
مفردات الشعر الصوفي ليست تقريرية. هي معزولة تماما عن الواقع المعاش. لها تعبيرات وانعكاسات مختلفة تمامًا عن أساليب الكتابات الشعرية الأخرى، فهي مثل البحر أحيانًا تغرق، وأحيانًا تتمايل وتستمتع بالإبحار، وأحيانًا لا تدري متى ستعود وأين أنت؟
من هنا بدأتُ رحلة البحث عن الصوفية والتصوف والإبحار داخل أعماق اليم الصوفي بحذر شديد خوفا من الغرق، أو الانجراف نحو تيار يفقدني طبيعتي كشخص محايد لا يرفض شيئا، وليس من السهل أن يقتنع بأي شيء، وما أردته من هذه التجربة الصوفية فقط هو المعرفة.
ما هذا الشعور الجامح الذي عجزت كلماتي عن التعبير عنه؟
بدأت فى الانطلاق بشكل أشبه بالهوس، من قراءة متأنية ومتدبرة فى كتب التاريخ الصوفي، قديمه وحديثه، واطلعت على علوم مبهرة كانت لهم فى الفلسفة وعلم الكلام والفيزياء والكيمياء وعلم الكون، وعلوم أخرى كثيرة، وقمت بإجراء مقابلات مباشرة مع شيوخ من عديد الطرق، ودخول عالم التصوف بشكل المتسائل المهووس، وفهمت أن التصوف كان ممارسة فردية، ثم باتت طرقا ومريدين وشيوخا وعهودا، وكل كتاب يفتح آفاقا من علامات الاستفهام، وتغوص في نقاشات، وتتعرف على أشخاص، وتسافر إلى أماكن، وتبذل جهدا في مقاومة اليأس والاستسلام والانهزام وعدم الاقتناع.. والعكس صحيح.
في بعض الأوقات غرقت، وفى بعض الأوقات رقصت وفرحت وأصبت بالعشق والانبهار، ولم يكن من السهل انبهاري من قبل، ولكن كل ما كنت أريده هو المعرفة، لا أريد أن أصبح عارفة بالله، مثل ما يقول الصوفيون، أو أصل إلى مقام المشاهدة، وهو أكبر المقامات الصوفية التي يجتهد الإنسان في عشقه لله حتى يصبح عارفًا به أو وليًا من أوليائه.. كل ما أردته أن أتعرف على هذه اللغة الدسمة التي يصعب هضمها، ولكن الأسهل أن تشعر بها، بشرط أن تبتعد عن قيود المنطق الحسي وعن ضوابط ماديات العقل كل البعد.
في يومٍ قال لي أحد الشيوخ: لن تصبحي صوفية أبدًا بعقلك، لأن الصوفي يصبح مجنونًا، عندما تصبحين مجنونة متحررة من قيود الحس العقلي، من الممكن أن تصبحي صوفية. وأدركت حينها أننى لن أصبح صوفية، لأن العقل بمثابة الحياة بالنسبة لي، وأصابني الإحباط، ثم قررت أن أقرأ لابن عطاء الله السكندرى، أحد كبار رجال التصوف، الذي اتُهم بنبذ العقل، ومن قراءتي له وجدته مجرد اتهام ناتج عن صعوبة فهم النص، وما وجدته ضد هذا الاتهام، فهو يقول بوضوح إن العقل نعمة قد أنعم علينا الله بها، فيجب استخدامه في التفكير والتأمل، وكل ما يتحدث فيه هو أن الله بيده كل شيء وقادر على كل شيء، ويدعو للاطمئنان والتوكل على الله، ولم يقل لا تفكر ولا تعمل لتصبح مجنونًا.
مما لا شك فيه أن الجنون في العشق من أجمل الأشياء من وجهة نظري، ولكن لم أعرف الجنون في وقتها.
بعد فترة من الصمت والتوقف عن القراءة، قررت أن أذهب إلى مدينة مشهورة جدًا عند أهل التصوف، يتوجهون إليها ويسمونها حج حميثراء، وهو مكان دفن فيه شيخ وعالم كبير مات فوق الجبل أثناء مسيرته للحج، قررت الحج مثلهم فذهبت إلى هناك، ولم أتوقع أبدًا ما حدث لي.. لم يخطر في ذهني أبدًا ما سألقاه هناك، رأيت بلدًا كل شيء فيه مختلف عما تعودت على رؤيته، أو توقعته من ملابس، من لغة، من ابتسامات، من فضول، وتساؤلات جميلة وخفيفة من شعور أدخلني في حالة وكأنني ترددت على هذه البلدة الصغيرة ألف مرة، وأن أهلها هم أهلي ويعرفونني جدًا وكأني فرد من أفراد هذه البلدة.. وفى ظل كل البساطة التي عايشتها فى هذا المكان من أهل البلد، من بيوت، من شوارع قد تجعلك تظن أنهم جهلاء بسطاء، لكن عندهم علم لم أكن أتوقع أن أعايشه.. وعندهم احترام وتقبل للآخر لم أرَ مثله في أي مدينة من قبل، ثم ذهبت إلى الفندق الذى أقيم فيه لأخذ قسط من الراحة حتى أواكب المسيرة ليلًا إلى حميثرة، التي تبعد عن القرية بحوالي أربعمئة كيلو متر، دخلت غرفتي التي أشبه ما تكون بغرفة قصر، تنسدل الستائر على الأرض الخشبية، وترفرف من الهواء الذى يدخل من الشبابيك الخشبية الصغيرة، التي ترى منها البحر الأزرق المليء بالجمال، والشاطئ المدهش الذى يجلس على ضفافه السكان بشكل هادئ ومرتب، ثم وضعت رأسي على المخدة بهدوء وسكون يملأ نفسى وتفكير مرتب، لا ضجيج، لا أصوات عالية، لا تشوش داخلي، بل فقط سكون وهدوء وراحة لم أشعر بها من قبل، كل شيء مختلف وجديد، وها أنا سأخلد إلى النوم، فأخذت سبحة شيخي الإدريسي وأخذت أسبح إلى الله حتى أنام، وقبل أن أغفو رأيت أمي يقظة بشكل واضح جدًا وكأنى جالسة معها وأنا في بلد وهي في أخرى، أراها بوضوح شديد، لقد أصابني الفزع وقمت إلى الهاتف، هاتفت أمي ووصفت لها ما رأيت، وأجابت بدهشة: نعم هذا ما أرتديه، وهذا ما أفعله، وهذا ما قلته.. أدركت وقتها كلام الشيخ عن الجنون، جنون العشق أصابني، ومن هنا بدأت الرحلة..