ضمير الشعب: سؤال في ماهية الدولة وتأملات في السلطة المعيارية.
د. سعيد ألعنزي تاشفين
مهما اختلفنا حول نوع الدولة أو صنفها حسب مختلف النظريات التي تحدثت عن أصول الدولة و أنواعها ؛ فالأهم أن الدولة تظل أحسن منتوج توصل إليه العقل السياسي البشري في معرض عقلنة العيش المشترك. ولا شك أن الخروج من حالة الطبيعة و ما ميزها من فوضى عارمة تحت سيادة قانون القوة، نحو حالة الدولة و ما يميزها من قوة القانون على قاعدة الحق بدل القوة ؛ شكل أهم تحول في تاريخ السلطة البشرية كما فهم ذلك علم السياسة و علم التاريخ . وسأكتفي بنظريتين أساسيتين هما : نظرية العقد الاجتماعي للمفكر جون جاك روسو، و نظرية الليفيتان لطوماس هوبز ذات نفحة دولاتية فريدة .
لقد كان روسو دقيقا جدا عندما قارن بين حالة الطبيعة و هيمنة مبدأ القوة على حساب مبدأ الحق، إذ نجد في كتاب أصل اللامساواة التقعيد الفلسفي لتصور خاص و فريد حيال الملكية ( بداية الملكية الخاصة )؛ فالذي سيج قطعة أرض و قال هذه لي هو أول وغد أصّل للملكية الخاصة من وجهة نظر روسو . إن الحق في الملكية ليس ما يعاديه روسو ، أبدا ، إذ نجد الرجل يرفض هذا الحق إذا استند على القوة لا على الحق . و اؤكد إن ميلاد نظرية العقد الاجتماعي شكل أهم تحول نوعي في تاريخ الحق و الواجب على أساس السيادة للأمة بعيدا عن إكراهات الفهم التيوقراطي للسيادة كما كان سائدا طيلة عصور الانحطاط الفيودالي الذي احتكر فيه الإكليروس السلطة باسم السماء . فالعقد الاجتماعي يؤصل للدولة على قاعدة صلبة مفادها أن الشعب وحده يملك السيادة على أساس المتوافق عليه . إننا أمام القاعدة القانونية التي تتولى ضبط العلائق الاجتماعية من خلال إخضاع كل الأطراف إلى المتعاقد عليه ، إنه القانون الأسمى الذي يولد من رحم الإرادة الشعبية ؛ انه الدستور الملزم لكل الأطراف باحترام بنوده كعقد اجتماعي متوافق عليه . إن الدولة إذن على أساس تصور روسو ليست سوى القاعدة الأخلاقية العليا و القانونية الأسمى ( الضمير الجمعي المؤسساتي ) المنبثقة من رحم الإرادة الشعبية لصالح الشعب نفسه عبر مدخل التعاقد . إننا ، وبلغة أبراهام لنكولن أمام أنموذج خاص للسلطة هو أن السلطة تنبثق من الشعب و تعود الى الشعب بواسطة الشعب . وإذا كان روسو من وجهة نظر تاريخ السياسة مفكر ديموقراطي و مدافع شرس عن سيادة القانون / الدستور في ضبط العلاقات العامة و الخاصة ، فإن طوماس هوبز لم يبتعد قيد أنملة عن المبدا المعتمد من لدن روسو ؛ إذ نجد هوبس في نقاشه لفكرة » الحق الطبيعي » ينتصر بشجاعة إلى الوازع الأخلاقي ، إنه الضمير ؛ أو بلغة افلاطون صوت الله في النفس ، و الحق الطبيعي يشكل أرضية ميلاد القانون الطبيعي عند هوبز الذي كان مع الدولة ، كما هو الحال عند روسو ، لكنه ذهب بعيدا عندما أصّل للتنين متعدد الرؤوس مثالا للدولة التي يستعصي ضبطها . بمعنى إن القانون الطبيعي ولد من رحم الحق الطبيعي ، و الحق الطبيعي ولد من رحم الضمير ، و الضمير هو القدرة الفطرية على التمييز بين الخير و الشر وفق الناموس الفطري للقيم . فالشر هو الظلم والحيف والعنف والاعتداء و انتهاك حرمة الأغيار ، بيدأن الخير هو الحق و العدل و الإنصاف والتسامح و كل قيم الفضيلة و مختلف أنماط السلوك الذي يزكيه الضمير الطبيعي. ولذلك نجد طوماس هوبز يدقق النظر في حياة الطبيعة حيث سادت الفوضى، ويقارن ذلك بحياة الجماعة البشرية في كنف الدولة ، ثم نجد مخرجات التحليل لديه لا تختلف عن ماهية الفعل السياسي لدى روسو . وبكل بساطة نجد تمفصلات كتاب الليفيطان تنتصر بقوة وشجاعة للدولة على أنقاص الطبيعة . إن الدولة هي الإنسان ، و الطبيعة هي التوحش ، وإن المَلكي ، كشكل من أشكال تدبير الدولة ، تشكل رُقيا و تقدما في الفهم و الإدراك .
يهمني أن الدولة شكلت اكتشافا فريدا في تاريخ الإنسان على سطح الأرض . فالدولة هي أداة خدمة الشعب نفسه لنفسه وفق مرونة استعمال السيادة الشعبية. إنها الضمير الجمعي ، و هي عقل مؤسساتي جمعي ؛ ينظر و يفكر و يتحرك من أجل حماية و تحصين مصالح الجماعة ، أي مصالح الشعب . من هنا تشكل الدولة الأداة المثلى لخدمة المصلحة الفضلى للشعب. مخرجات الفهم أن الدولة سياسيا تجد مشروعيتها في خدمة الشعب، وليس العكس. ومنه سنجد عند صاحب روح القوانين مفهوما جديدا و دقيقا في ضمان ترشيد السلطة. فروح القوانين عند مونتسكيو من أهم أدوات حماية الشعب للدولة كي لا تزيغ عن الهدف النبيل المتمثل في خدمة الشعب بمعنى أن عدم ضبط الفصل الحقيقي بين السلط ؛ أي ضمان روح القانون، قد ينتهي بانحراف الدولة. وإذا كان الانحراف خاصية ملازمة لبعض البشر، فنقول فلان منحرف، بمعنى زاغ عن نسق القيم المتفق عليها من لدن الجماعة البشرية، أي مختلف القيم التي يزكيها الضمير بالفطرة ، فإن الدولة منذ إبن خلدون كائن سياسي قابل للانحراف كذلك، بمعنى شخص سياسي، ولذلك فالدولة دون ضبط روح القوانين ستنتهي إلى دولة منحرفة ؛ منحرفة عن ماذا ؟ عن خدمة المصلحة الفضلى للجماعة، أي غير قادرة على صون حقوق الشعب. ولإلزام الدولة بالوفاء في خدمة المصلحة العليا للشعب ، ينبغي لزوما تحقيق الفصل بين السلطات من أجل عدم التواطؤ في ابتلاع سلطة ما لباقي السلطات بما سينتهي إلى ما تسميه حنة ارندت بالتسلط الكلياني . إنه الفصل بين السلط عبر ماهية ترنسندنتالية لمبدأ و لقاعدة » روح القوانين l’esprit des lois » ؛ فروح القانون إذن من وجهة نظر مونتسكيو لا يمكن أن يتحقق دون خدمة مصلحة الجماعة ، أي المواطنين الذي يمنحون الحاكم شرعية التصرف باسمهم . و عليه فماهية الدولة لا تحقق نبلها إلا بالإخلاص في خدمة الشعب ؛ و عبر خدمة الشعب تتحقق أخلاقيا ماهية الدولة ؛ إنها الدولة الفاضلة ، و الدولة الفاضلة أخلاقيا ليست سوى الدولة الديموقراطية بلغة علم السياسة كما بلغها العقل السياسي العملي .
نافلة القول ؛ إن الدولة تولد من رحم الشعب عبر الإحتكام لقواعد الضمير الجمعي ؛ أو لنقل القانون الطبيعي على أرضية توثيق الحق الطبيعي المستمد من رحم الضمير و الفطرة الانسانية السليمة . و بناء عليه نجد الدولة مجموع القواعد الأخلاقية / القيمية المستمدة من فطرة الضمير الجمعي و التي يتم تصريفها وفق صنادق السيادة الشعبية . و منه فالشعب ملزم بإخضاع الدولة لقواعد الضمير ، والدولة ملزمة بأن تتمثل الحقوق في نبلها ، أي الضمير الجمعي . و بذلك نصل إلى الدولة الفاضلة لصالح المجتمع الفاضل . و بلغة السياسية ؛ دولة ديموقراطية لمواطنين ديموقراطيين . و بمنطق الخلف ؛ كلما تعايش المجتمع ( جماعة بشرية = الشعب ) مع اللاضمير؛ بمعنى مع القيم المتنافية مع الضمير ، إلا و فشل في بناء دولة فاضلة ، و كلما انحرفت الدولة ، ضمير مؤسساتي جمعي ، عن تجسيد الحق ، أي عن ما يسمح به الضمير بالفطرة = الحق الطبيعي ، كلما عجزت عن تحقيق الحق الطبيعي و تحويلها إلى قانون ، أي ستنتهي إلى دولة غير فاضلة . و بذلك نخلص إلى أن الدولة الفاسدة تكون من نصيب المجتمع الفاسد العاجز عن تصريف سلطة السيادة الشعبية من أجل فرز نخب حاكمة على قدر نبل فكرة التعاقد ، و الدولة الفاضلة تكون من نصيب المجتمع الفاسد نيفيا حسب منطلقات تفويت السيادة . و يبدو إننا مع آليات دقيقة في تحديد الجوهر القيمي لماهية الدولة . و بقدر ما ينحرف الأشخاص الطبيعيون ، أي البشر ، بقدر ما تنحرف الدولة ، أي شخص معنوي اعتباري مؤسساتي قانوني ، أي عقل معياري . و من ثمة فليس هناك في علم السياسة سوى نموذجان مختلفان للدولة ، و كذلك ، في سوسيولوجيا السياسة ؛ ليس ثمة سوى نمودجان مختلفان للمجتمع . دولة فاضلة ؛ أي ديموقراطية ، لمجتمع فاضل ، أي ديموقراطي . و دولة فاسدة ، أي عكس فاضلة و غير ديمواقراطية ، لمجتمع فاسد ، أي غير فاضل و غير ديمواقراطي. وبناء على هكذا فهم ؛ نستنتج إن صنف الدولة من صنف الشعب، وصنف الشعب من صنف الدولة بمنطق الخلف البرهاني . و العلاقة بين الاثنين دقيقة و جدلية وتفاعلية . إذ لا يمكن أن تكون الدولة ديموقراطية ( دولة فاضلة ) في كنف مجتمع فاسد . و تبقى الخطورة عندما تتماهى الدولة و المجتمع معا مع الفساد ، بمعنى عندما تعجز الدولة و المجتمع معا عن معانقة ماهية الفضيلة ، و هنا طبعا تتعمق أخلاق الفساد لصالح تقوية الدولة الفاسدة للمجتمع الفاسد بما يحقق جوطاليناريا نسقيو أفقية و عمودية كما ذهبت إلى ذلك حنة ارندت. وعليه إن الدولة فلسفيا هي ضمير الشعب، ولذلك تحتكر، على أساس الاختصاص، كل أنماط العنف المشروع و القوة الشرعية . و عليه فكل سلوك لا ينسجم مع القواعد الأخلاقية ( القانون ) يستحق حتما عقابا مناسبا ، أي العنف المشروع = العقاب حسب مضمون القانون . فالسجن مثلا أداة لتنفيذ العنف المشروع، من لدن الدولة لتحقيق الطاعة كما أكد
ميشل فوكو، أي الضمير الجمعي. ويتجدد السؤال؛ ماذا لو عجزت الدولة عن عقلنة العنف المشروع ؟ في هذه الحالة سيكون عنف الدولة ضد نواميس الضمير، أي ستكون هي نفسها ضد مشروعية وجودها . ببساطة سنكون أمام دولة غير فاضلة، والفضيلة طبعا ليست إلا نقيضا للفساد منسق أخلاقية عام منحرف عن نبل الناموس. ولهذا إذا كان الخطأ من حقوق البشر ، فإنه ليس من حق الدولة اللثة لأنها الساهرة على رجحان الضمير . ببساطة ؛ لأن الدولة ضمير الشعب ، عبر نسق من المؤسسات ؛ إنها ضمير مؤسساتي جمعي و عقل معياري راجح نحو الفضيلة . فالمحكمة و » البوليس » والدرك والسجن و القانون الجنائي و كل مؤسسات العقاب المشروع ، كل هذه ليست سوى ميكانزمات إنفاد القانون، أي تطبيق العنف المشروع لصالح حماية الضمير ، أي لصون سيلان الفضيلة . فالذي اغتصب حقا يستحق السجن بعد محاكمته بمقتضى القانون الجنائي الذي وضعته الأمة، أي الشعب، من خلال ممثليه، أي عبر الديموقراطية التمثيلية ، من أجل حماية حقوق الجماعة . و بمنطق الخلف، عدم معاقبة ذلك الجاني سيشكل اعتداء سافرا على حقوق الجماعة. و بذلك تحمي الدولة حقوق الجماعة عبر تنفيذ القانون وإنفاذه الذي هو تعاقد الشعب على أساس قيمي / أخلاقي مؤصل بالسياسة الشعبية. إن تحقيق العدل والإنصاف، تكريس الحق والعدالة؛ من أهداف الدولة الديموقراطية. كما أن السماح أو التماهي أو التطبيع مع السلوكات التي تتنافى مع الضمير، ليس من شيم الدولة الديموقراطية. وبالتالي من شيم الدولة المتناقضة مع قيم العدل والإنصاف؛ أي مع الضمير، أي الدولة التي تتنافى مع الفضيلة مقيمة عليا جامعة مانعة لكل أخلاق الخير .
و صفوة الفهم ؛ إن الدولة ملزمة فلسفيا ( وفق فلسفة القيم السياسية العليا ) بالإنتصار للضمير ، و لروح الضمير ، ببساطة لأن الدولة هي الضمير الحي و اليقظ للشعب . و متى تخاذلت الدولة في الإمتثال للحق و للعدل ، و متى تواطأت الدولة مع الفساد ، كلما طبع المجتمع بدوره مع الفساد و شرعنه بالقياس على الدولة . إن الشعب هو الجسد ، و الدولة ضمير ذلك الجسد . و كلما اعتمدت الدولة على العنف المشروع من أجل توطيد الحقوق بتصويب الإخلالات و بتقويم السلوكات ، كلما كانت دولة فاضلة ، و كلما زاغت الدولة عن ذلك ، كلما بدأ المجتمع ، أي الشعب ، في التدخل لتقويم آليات اشتغال ضميره الجمعي ؛ أقصد الدولة ( الإحتجاجات ضد الفساد محاولة لتصويب الضمير الجمعي ، أي الدولة عبر التنبيه . و بالتالي لا يجب أن تزيغ الدولة عن احترام ماهية وجودها ؛ و ماهية الدولة دائما هي خدمة الشعب عبر إحقاق الحقوق ، و بذلك تتحقق الدولة الفاضلة لصالح المجتمع الفاضل .
بناء على كل ما سلف ؛ إن الحاجة إلى الدولة الفاضلة يندرج ضمن الحاجة الى احترام أدمية الإنسان . و الإنسان حيوان سياسي و حيوان تاريخي ، لأنه الوحيد في عالم المخلوقات الذي يتجاوز حياة الفوضى ( حالة الطبيعة ) من أجل إدراك حياة المدنية ( حالة الدولة ) . و كلما زاغت الدولة فلسفيا عن قيم الحق و العدل والإنصاف إلا وابتعدت عن حياة المدنية، وبالتالي مالت إلى حياة الفوضى، أي الطبيعة الحيوانية المبنية على العنف والإكراه. وعبر الدولة الفاضلة تتحقق مدنية الإنسان ويتم ضمان جودة العيش المشترك على قاعدة القانون الذي تضعه السيادة الشعبية لصالح المصلحة الفضلى للجميع، وعليه فحسن الامتثال لنبل السيادة الشعبية كفيل بتجويد الدولة لصالح جودة المجتمع .