بوح من وحي ليل شارع المعز بالقاهرة

بوح من وحي ليل شارع المعز بالقاهرة
شارك

د. خالد فتحي، كاتب مغربي

هل جربت يومًا ما أن تشَنِّف سمعك بموسيقى عبد الحليم، وأم كلثوم، وفريد الأطرش، وصوت أحمد عدوية وحماقي… دون أن تشعر بأي نشاز؟ بل وتشعر وكأنهم جميعًا اتفقوا على أن يمنحوك صوتًا واحدًا، صافيًا، عذبًا، شجيًا، مليئًا بالحب والحنين؟

إذا أجبت بـ « نعم »، فالأرجح أنك وطأت قلب القاهرة الفاطمية، القاهرة الأولى، أو القاهرة الحقيقية: شارع المعز لدين الله الفاطمي. أما إن لم يحدث لك ذلك بعد، فاعلم أن هذا الإحساس لا يُدرَك إلا هناك، في ذلك الشارع الضيق الطويل، الذي يبدو كأنه قرص مدمج مضغوط، يحتوي على كل تاريخ مصر الإسلامية في حيز واحد.

شارع المعز يا سادة، ليس شارعًا فحسب، بل منصة طويلة، لا تمتد فقط بين باب زويلة وباب الفتوح، بل بين الأزمنة أيضًا، يصل بين الفاطميين، والأيوبيين، والمماليك، والعثمانيين، حتى عصرنا الحاضر. يضم بين باعة العطور وصاغة الحلي، وتسابيح الدراويش، وبائعي الحلويات والأطعمة الشهية.

شارع المعز… إنه الشارع الشهير، الأشهر من نار على علم….، الشارع الذي يحمل أكثر من اسم: الشارع الأعظم، القصبة، شارع النحاسين… هو شريان تاريخ متدفق بالكنوز، يجري بين أضلع القاهرة التاريخية على بضع خطوات من مسجد سيدنا الحسين. إنه نيل آثار، نيل بمعنى وإيهاب آخرين.

منذ سنين، أزور القاهرة، وفي كل زيارة، أجد نفسي تهفو بي نحو الأزهر والحسين. صار خطوي يحفظ الطريق إليهما دون قرار مني، وكأنما لا يكتمل وصال القاهرة عندي إلا بهما. تقليد لا أملُّه، ما دامت هذه المنطقة المباركة من المدينة العتيقة، لا تكف عن إبهاري، ومنحي طاقة ستظل تؤثر فيَّ كالسحر، إلى أن يفتح الله عليَّ بالوصف الدقيق لها: هو الطريق ذاته أسلكه باستمرار: ميدان التحرير، فتمثال طلعت حرب، ثم شارع عبد الخالق ثروت، وبعده نصب إبراهيم باشا ابن محمد علي، حاملًا سيفه من على صهوة حصانه. لست أفهم لماذا أطلق عليه المصريون لقب « الأعرج »، رغم أنه لم يكن كذلك – ربما لأن رجله مائلة قليلًا في التمثال – أتأمله وأتذكر علي باشا باني نهضة مصر، ثم أغوص تحت كوبري الأزهر وسط نداءات الباعة واختلاط المارة بالسيارات، في « الزحمة » التي تدفعني مثلما يدفع الموج إلى الأزهر والحسين. هناك حيث العبق، والأريج، وروح القاهرة الآسرة. هناك حيث يمتثل أمامك وجدان مصر، وهناك يبدأ السحر إلى أن تبلغ المعز… فتمضي بك الأعاجيب.

في شارع المعز لا تحكي لك القاهرة تاريخها… بل تجعلك تعيشه، كأنما تستقل آلة الزمن، وتسافر على متنها على مدى ألف عام من الحضارة التليدة المجيدة.

كثيرون لا يعرفون أن القاهرة، هذه المدينة الفخيمة العظيمة الممتدة، هي في الأصل ثلاث مدن:

الفسطاط، أول مدينة إسلامية في مصر، بناها عمرو بن العاص، ثم القطائع، التي أنشأها أحمد بن طولون، فالقاهرة الفاطمية، التي شيدها المعز لدين الله الفاطمي وجعلها عاصمة دولته الجديدة.

شارع المعز هو جوهر القاهرة الفاطمية، لكنه لا ينسى الفسطاط ولا القطائع. فهو مثل مصر نفسها: لا تُلقي ماضيها خلفها، بل تحمله زادًا حضاريًا معها في كل زقاق ومئذنة ومقام.

تمر بـ »باب زويلة »، ذلك الباب الذي عبرت منه العساكر، وعلقت عليه رؤوس، وتشم رائحة القهوة القديمة من مقهى لا يحمل اسمًا أحيانًا، لكنه يحمل روحًا. تسمع نداء الباعة، خطى السياح، همسات العاشقين، وسلام الدراويش. كل هذا في مساحة لا تتجاوز كيلومترًا واحدًا، لكنه كأنه كيلومتر أطول من الزمن نفسه.

في هذا الشارع، تشعر أن القاهرة قررت أن تلخص وتخلص نفسها لك. كل حجر هو أثر، وكل زقاق هو سطر مفقود من كتاب التاريخ. هناك تسهر المقاهي وتصطخب إلى الفجر، ويتسامر المحبون على ضوء الفوانيس، وتخلق لك المصابيح بانعكاساتها وألوانها ألحانًا من الضوء والظل على الجدران، وتأتيك الأغاني من زوايا لا تعرف مصدرها، فتشعر أن الغناء أمامك ووراءك وعن يمينك وشمالك، وفي كل اتجاه، حتى لتستشعره يتسرب إلى أعماق نفسك.

في شارع المعز، لا يُعرض التاريخ على الجدران ولا على الأسوار والمآذن، ولا تمثله الزخارف البديعة والنقوش الجميلة فحسب، بل هو ينبثق من الأرض. هنا مشى الخلفاء، وكتب الأدباء، وسجد الأولياء، وغنّى الفنانون، ورقص الناس بفطرتهم على موسيقى الحياة. من هنا مر الحاكم بأمر الله فوق حماره، وهنا سار القائد جوهر الصقلي، والصالح نجم الدين، وقبله صلاح الدين الأيوبي، وبيبرس البندقداري، قاهر المغول، وقلاوون، ومرت جنود الحملة الفرنسية ومحمد علي باشا، وهنا درس عبد الناصر وكتب نجيب محفوظ أعظم رواياته.

قضيت وقتًا طويلًا قبل أن أتعرف على كنوز هذا الشارع البهي الجميل، فمسجد الحسين، والأزهر، وخان الخليلي كانوا يستغرقون كل وقت زياراتي السابقة. إن القاهرة الفاطمية تتطلب منك كسائح سنوات عدة كي تتكشف أمامك منطقة تلو الأخرى.

لكن هذه المرة جئت، وقد عزمت أن أبدأ بشارع المعز. قرأت عن تاريخه، وشاهدت في سبيل ذلك أفلامًا ومسلسلات ووثائقيات. لأن من يزور هذا الشارع دون استعداد، يفوت على نفسه متحفًا مفتوحًا على السماء. فلا تأت له أبدا بدون عدة ولا اطلاع .

حقًا لا شارع كشارع المعز: هل سمعتم عن شارع بكيلومتر واحد يضم: 6 مساجد، و7 مدارس، و7 أسبلة و4 قصور و3 زوايا وحمامين وبوابتين وخانقاوات وتكايا؟ هل سمعتم بشارع يتكثف فيه تاريخ بلد كل هذه الكثافة؟

قبل شهر مررت بهذا الشارع نهارًا، وجدته حينذاك صاخبًا، وها أنا قد عدت له هذه المرة ليلًا، فكان ساهرًا لا يهدأ. إنه الشارع الذي لا ينام طرفة عين.

أعرف صديقة مصرية اسمها « أريج »… تعرفت إليها قبل الجائحة. تهيم حبًا بالتصوف، تقرأ لابن عربي والحلاج، وتحب اليوجا، تكتب أدبًا صوفيًا رائعًا، ومتعلقة بشدة بأبي الحسن الشاذلي الشيخ المغربي الذي صار مصريًا ذا شأو روحي وديني عظيم، وبالمرسي أبي العباس ولي الإسكندرية. في جولتنا، تطوعت أن تكون دليلي، تركنا السيارة بعيدًا، ولكنها تمكنت أن تؤوب بنا إليها اعتمادًا على ذاكرتها البصرية كما قد قالت، وقد نجحت في ذلك، بعد أن عدت للرباط، أدركت أن ذلك ليس غريبًا: كل سنتيمتر في المعز هو أثر، كل حجارة علامة، كله إشارات، فكيف لا تستطيع أن تهتدي بين آثار تسطع مثل تلك النجوم التي كانت تقود البدو في الصحراء، إلا أنها آثار تدل على المجد، والفخار، والعزة، والحضارة.

وقفت أنظر لسماء شارع المعز وقلت في نفسي: في هذا الشارع، لا أحتاج لإجابة. كل شيء يبدو أنه يعرف مكانه. حتى الشكوك تجد لنفسها موضعًا بين النور والحجارة.

في شارع المعز، لم أشعر أننا نسير وحدنا. كان المعز نفسه يسير معنا، وكانت شجر الدر، وكان المقريزي، وربما عبد الحليم حافظ، وهو يغني من بعيد:

« جانا الهوى جانا… »، وكانت الست تشدو من داخل بيت السحيمي العامر بالزبائن:

« ياللا نعيش في عيون الليل، ونقول للشمس تعالي تعالي، بعد سنة، مش قبل سنة… »

كم ستُحبّ في مقهى أبي العربي — حيث جلسنا — أغنية « أنا لا مسطول ولا بطوح »، وكم ستنشرح روحك للرقص الذي يصاحب إيقاعها! راقصون يقفون على أرجل خشبية طويلة مثل المهراجات، يتمايلون عليها بخفة كأنها امتداد طبيعي لأجسادهم النحيلة الممشوقة.

كم سمعت هذه الأغنية صدفة في المغرب، لكني لم أكن أتوقف عندها. اليوم، وأنا مغموس في البيئة المصرية الأصيلة، اندهشت من بلاغة كلماتها. لقد لمست قلبي ببساطتها، وأدركت أن هذا الغناء ليس من الشعر « الرسمي » لكنه من الشعر القريب، الشعبي، المؤثر.

لنتمعّن:

« أنا لا مسطول ولا بطوح، أنا جاي أجامل وأروح،

وأشوف اللي باعني وسابني وخاني، خلى قلبي بيتمطوح،

آه ياما، وآه يابا، دي عيلة واطية ونصابة،

الليلة جينا نهنيكوا، هاتوا الفلوس اللي عليكم. »

هل هو شعر « حلمنتيشي »؟ ربما، لكنه شعر يؤدي غرضًا ويبلغ معنى، والأهم: يلامس القلوب بلغته القريبة السهلة، حد البلاغة.

هنا، تدرك أن شارع المعز ليس مجرد أثر، بل الحياة المصرية نفسها في أنقى وأجمل تجلياتها. هو الوجدان المصري حين يفيض.

حين كانت أريج تشرح لي لماذا يبدو المصريون منبسطين منشرحين في هذا الشارع، كنت أقرأ في عيونهم بريق حب مصر، المتقد دومًا، لكن شارع المعز بالذات بدا لي يزيده توهجًا. كانت هي تعرض لي « المظاهر »، وكنت أنا أحاول أن أنفذ إلى « المعنى العميق ». أليس من يأتي من بعيد هو أقدر على التقاط الجوهر؟ الآثار المصرية ليست فقط زخارف ومبانٍ عظيمة، بل هي روح تسري في أوصال الشعب.

قلت في نفسي: إن المصريين يحبّون هذا الشارع، لأنه يمنحهم دلالات اجتماعية وثقافية، لا مجرد دلالات جمالية أو عمرانية. إنه يعبر بالحجارة الصلدة عن وجودهم الاجتماعي الذي امتد من الأجداد إلى الأحفاد. شارع المعز هو مرآتهم، من بين مرايا كثيرة تعكس لهم قيمهم، وهويتهم، ورسالتهم.

في هذا الشارع، تجد ما لا تتخيل وما لا يخطر لك ببال: مجموعة السلطان قلاوون، التي تضم قبة ومسجدًا ومدرسة وبيمارستانًا (مستشفى)، وتعد ثاني أجمل مجموعة معمارية في العالم بعد « تاج محل » في الهند. بجانبها، مدرسة ابنه الناصر محمد، التي تعبّر عن العمارة المملوكية الكلاسيكية. ثم مسجد الظاهر برقوق، الذي كانت تُدرّس فيه المذاهب الأربعة، ويتزين بمئذنته وخشبه المصقول بالنحاس. أيضًا: سبيل خسرو باشا (بني سنة 1535م)، وسبيل محمد علي باشا (نذره صدقة جارية على روح ابنه أحمد طوسون المتوفى سنة 1813م). وفي تلك الأسبلة، كان الماء يُقدَّم لري العطشى، بالمناسبة، نحن في فاس نسميها « السبالات ». قبة الصالح نجم الدين (بنيت سنة 1342)، ومدرسة الظاهر بيبرس البندقداري أيضًا هنا.

تقول كتب التاريخ إن هذا الشارع بني أول مرة في منطقة « بين القصرين »، وهي المنطقة الواقعة بين القصر الشرقي الكبير للمعز، والقصر الغربي الصغير لابنه العزيز بالله، وكان بين القصرين متسع لعشرة آلاف جندي!.

 « بين القصرين »… أليست هذه رواية نجيب محفوظ؟ نعم، لكن هذا الشارع أهدانا أكثر من مجرد رواية. أهدانا عالمًا. هنا، في شارع المعز، وُلدت روايات نجيب محفوظ، صاحب نوبل. هنا تحلّق روحه، لم يكن عبقريًا بالصدفة، بل لأنه خرج من هذا البهاء والروعة. أليس الكاتب ابن بيئته؟

إنه شارع بذاكرة متقدة… مركز سياسي وروحي لمصر، تسابق فيه خلفاؤها وسلاطينها في تشييد المساجد، وكأنهم كانوا يعدّون هذا الشارع محجًا سياحيًا روحيًا للحضارة المصرية. لقد شيدوا مراقدهم وهم على قيد الحياة، تمامًا كما فعل الفراعنة في وادي الملوك. بهذا المعنى، فإن تاريخ مصر هو أقدم تاريخ متصل في العالم، تتشابك حلقاته منذ آلاف السنين.

خارج شارع المعز، كان جامع الحاكم بأمر الله، ذلك الخليفة الفاطمي الذي ما زال يثير الجدل حتى اليوم، ولكن لم يلبث أمير الجيوش بدر الجمالي أن ضمّه داخل أسوار القاهرة. هذا الجامع يستحق أكثر من رواية. ربما سيكتبها يومًا يوسف زيدان، أو ريم بسيوني، أو غيرهم من أبناء مصر الذين لا ينضب نبعهم الإبداعي. بدأ بناءه العزيز بالله سنة 1022م، وأكمله ابنه الحاكم بأمر الله. عانى هذا المسجد الإهمال والتخريب، وتحول إلى ثكنة عسكرية لجنود نابليون، ثم مصنع زجاج، ثم مدرسة ابتدائية، ثم متحف للآثار الإسلامية، ثم عاد أخيرًا جامعًا شامخًا كما أراد له صاحبه. يقول الخبراء: إنه جمع في بنائه بين طراز أحمد بن طولون وفاطمية الزخرفة.

قالت لي أريج، وقد أوقفتني طويلًا أمام مسجد الأقمر، إنه « تحفة » معمارية. مسجد صغير، بُني عام 1125م، وسُمّي بالأقمر لأن لون جدرانه يشبه ضياء القمر. نقوشه بديعة، وزخارفه موشومة بالخط الكوفي، تتردد فيها أسماء محمد وعلي، في إشارة إلى محتده الفاطمي. يقول المختصون: إنه مزيج مذهل من الفنون القبطية والبيزنطية والإسلامية.

وأخيرًا… أعلم أني لا أعرض آثار المعز حسب ترتيبها المكاني، بل حسبما تتوارد على ذهني. عذري أن الخلفاء يتزاحمون هنا، فتتزاحم آثارهم في الذاكرة.

وفي الحقيقة، لا تحس بالوقت وهو يمضي في شارع المعز، وإذا انتبهت له، تمنيت أن يتوقف بك الزمن عند لحظة من هذا التاريخ الطويل.

لكن في الوقت ذاته، تدرك أن الحياة لا تزال تنبض هنا بكل جديد: طفلًة تزدرد غزل البنات، وأطفال يلعبون بين آثار الأجداد، كأنهم يتشربونها… أو لكأنهم يُكملون المشهد العظيم: عناق الحاضر بالماضي.

شارع المعز، ليلًا أو نهارًا، ليس موقعًا أثريًا فقط، بل تجربة إنسانية وفنية وذوقية وثقافية كاملة. إنه نوع آخر من التصوف، دعوة دائمة للدهشة، للتأمل، وللفخر. من يزره مرة، يعود إليه مرات، فلكل زاوية فيه قصة، ولكل حجر فيه روح، ولكل وجه فيه رواية.

صدقًا، لليل المعز سحر لا يُقاوم ولا يُنسى… فزوروه.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *