رثائيات من غيم ..
د. سعيد ألعنزي تاشفين
* ضجر البليّة :
عندما كانت الأوزار تتوسّد صدر الجبّ السخيف، وكان وعد السّماء ينخر حلم الطفولة الأولى، وكان خَطو التائهين ينشد في الناس رحماه رحماه. عندما أظل الناس السبيل ، وكان المحبّون يكتبون على قراطيس السّهو أحجية الفجر والليل بحروف من دم، لقد حصل ما حصل ثورة على هذا الوجود الذي يستعصي قبوله، وهذا تماما عندما تيتّم حُلم الفقراء بزهر نضيد وحلم الصغار بثدي حلوب وحلم الأمهات بأُنس فرود وصمت شذراتي بوسوسة للغياب لِمامَا، كنا نهزّ الدمعة النخلاء لعل الأمطار تهطل رأفة بقلب صغير وُلد ليعيش بين قبرين من نخر الكبار يجتاح ظنّ الأوزار و يرمي في التراب بذار الفضيلة لعلّ المذنبين يستفيقون من عنجهية الوِزر العظيم .
* نجوى الأم :
ثم سرد لي حلمه وبدأ يرقص فرحا بعمره الفتيّ ، يتحرك بمحاذاة بيتنا الطيني في خصر وطني، ثم، قالت لي، إني أراه يغتسل بالدم وكلما مرّت على جسده النحيف أناملي في اتجاه البحر والمحيط الكريمين اصطبغَت بالدم فناء تمدّد في هذه البلاد، حتى أخذ التراب والوحل هوية من عار، فأخذت الأشجار لون دمه ورتّل الليل آيات من تعبً، ورأيت ، تهمس لي، ماء البئر ينسكب على بقاع الدم ويعجز عن غسلها، ثم رأيت صلوات كل المؤمنين بكل بقاع الأنين بأرض يسكنها من خافت منه الملائكة مذ قالوا كيف تجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء تحُول بيني وبين امتداد الدم والدمع؛ ثم تقصدني لتروي فيضها :
تُرى هل كان مهرجانا من اللعنات المسكونة بآهات المستضعفين ؟!
أم هي مراسيم النّجوى في زاوية يقطنها الجفاء والبأساء، فجاء ولدي يفجّرها ألف ذكرى وألف تاريخ متجدّد وآيل بالدمع على حظوة العالمين ؟!
ثم أني كنت أغسل وجوه الصّغار منذ كنت أمّا بماء نبضي فيشرقون وتنهمر من عيونهم بعض نهاراتً وبضع نُجيماتً وكانوا يتبتلون للسماء أن تنسكب، فسكبت السماءُ دمعها وغسلت الدم وأطفأت النار ثم دهنت المدى بالحضور المتعدّد أية من سدرة المنتهى للعالمين .
الأن سأنبئك بما لم تستطيع عليه صبرا ..
* تراجيديا مزجاة:
هو أنا مريدكم بمحراب خيباتنا المتجدّدة، جئت إليكم من متاهات الحزن البكر الذي رافق ولادتي على العهد القديم، ومطيّتي هذا القلب المحب، وأسئلتي حول مدامع العمر عاندت هدوء الفلوات، ونجمات ليالينا هداية نادتني منذ عمر ونيّف أن اللّوح المحفوظ قدّر وما شاء فعل؛ وإن كان الابتلاء لا يليق بالأطفال، وعذرا إلاهي، فلا تبتئس بما كانوا يفعلون . وفطنتهم، وما يدّعون، وانسكاب بوْحهم، وما يفترون، لا يُشمّر سواعد حلمنا ولا ينقدنا من غربتنا. هو أنا ذاته من سقطت منه وصيّة الأمس بين مخالب الليل العنيد، من صمت أذنهم عن ندائي، ومَن أهدروا العمر فينا بلا فضيلة، ومن ضيّعوا الأسماء وأهدروا اليقين .
أيها الناس جئتكم من نفسي إلى نفسي بعدما تركت حلمي جانبا بمقربةٍ من أضرحة المصير بكل فجاج التوسلاّت، جئتكم حافيا إلا من رجاء، ويتيما إلاّ من رحمة خفق القلب، توضأت بدمعات كل الأمهات المنكسرات من على جدار الغيم، بعدما كحلت عيني بتلك الدروب نحو المأساة التي تعلمون، وقرعت بابكم فافتحوا أيها الذين أمنوا فافتحوا .
* الرّثاء على شاهدة العمر ..
أطفال نظلّ نحن في حضرة الأمهات وإن شابت رؤوسنا وإن غادرتن بلا مواعد نحو وجهات الخوف. إقلاء أشحّاء وإن تكاثرت هذه الدنيا بأيدينا، فامتلكنا كل شيء فضاع منّا يقين الأمهات وفقدنا أحلام الطفولة العذراء كمريم. وطفقت دمعة وحيدة هي ما بقي لي من رصيد المدامع تغزل ضحوة الأمس على أديم الكسيح فقالت حزني هويتي عند الله وبُهرجي وزينتي يوم الدين الكبير وفي كل المواسم هنا في دنيا الإهانة، وما العاقبة إلاّ للمتقين .
هنا وهناك على بيدر القلب لا جفن يغمض ولا أسماء، لا ظلّ ولا حلم، لا حضرة ولا وصال؛ ووحده غياب أليم حتى صار للقلب في المقابر الكثير، ولا جدار يفصل بين أنين الروح ومتاهات البليّة العصية على طفولة الخراب. لا بهو ولا بهار، لا ليل ولا نهار، لا حلم ولا منال؛ هنا وهناك سفكتك البيناء يا ضئيل ومزّقتك تنهّدات الدّمار. فمن قال أن حلمي بالعمر حُضني يا أمّاه، من قال هو موئلي وتوبتي ومثابتي وقد اغتالته الظّلماء، ويبدو ذلك صدًا كسيحْ، رهق نزيف للأزمنة الثكلى، لكنه عندي لا يبور. وحزن الأمهات أيها الناس الوضوء والصلاة، وهو ثمرات الأيام وفجوة على ظنون المذنبين، هو نخلتنا العطشى ومرتعنا وفتوّة فرحتنا المغدورة وبغتتنا الأولى، فكّ رقبة طفل وفك شجن حزننا الحزين وفك لوعة و فك انتباه الغربة والاغتراب والغرقى؛ فيا أيها الناس توضأوا على خفر الدموع .
و صفوة بوْحي نحن معا أيتام من الأمهات وهنّ يتيماتنا يا رؤوم، و حزنُنا هَدَم جدارنا الذي قتل الأنبياء، وأنت يا أمّاه ستمكثين دامعة، يا يتيمة ابنها مثل يتيم أمه، هداية ويتبدد طيف القاتلين ..