متى ينهض الإبداع السنيمائي للتأريخ الفني لملاحم الأمة
فؤاد الجعيدي
السنيما العالمية، في كثير من روائعها، تفاعلت مع أحداث مجتمعاتها وصنعت منها قصصا في التعاطي مع التأريخ لوقائع بعينيها وهو تأريخ ينهض من الواقع ليصيغ منه كتابته فنيا.
وهكذا رأينا كيف أن فيلما انطلقت أحداثه من قرية صغيرة نائية حيث كان المصنع الذي أنشئ بها قد أحدث دمارا بيئيا بتلويث النهر بالمواد الكيماوية التي كان يقذفها بالنهر..
حين اكتشفت الشخصيات المحورية في الرواية الأسباب، تتطور الأحداث لتصبح قضية ينخرط فيها رجال السياسة وتتم تعبئة الساكنة لفضح الشركة التي كانت لها تواطؤات مع جهات في الدولة لإخفاء دمارها.. وتتوج الأحداث بالانتصار لقضية حماية القرية التي بات أسمها مشهورا تتداوله الصحافة والقنوات الإعلامية.
قصة الطفل ريان من ضواحي شفشاون، صارت اليوم قابلة للتعاطي السينمائي معها، بإنتاجها لكل مكونات شد الأنفاس وتتبع أخبارها ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة..
الخمسة أيام صارت، زمنا ثقيلا في توالد الأحداث وسط منحدرات جبال الريف.. في أعلى التلة تم حفر بئر عميق للحاجة إلى الماء وشحته، لكن القدر كان يصنع شراكه لطفل سقط سهوا في قاع الجب..
حضر رجال الإنقاذ، والسلطات والخبراء والمواطنين والمجتمع المدني بقوة وأضيئت الأنوار لتبديد ظلمات الليل وغذت الجرافات تنبش التراب ثم تتوقف أمام انهيار التربة..
وفي هذا الزمن التكنولوجي، ظلت شاشات الهواتف الذكية تتابع هذه المشاهد الرهيبة، وما فتئت أن التحقت بها القنوات الوطنية والمواقع الرقمية ثم القنوات العالمية.
فصار ريان قضية إنسانية بامتياز، والمتطوعون يأتون من كل ربوع البلاد، ينذرون أنفسهم في سبيل أن يحيا ريان.. ريان الذي صار ابنا عالميا لكل أمهات وأباء العالم، وفي كل البيوت العالم غدا الأطفال لدى الأطفال في كل صباح سؤال وحيد، هل خرج ريان هل ريان ما زال حيا يرزق..؟ وفي مساجد الدنيا كانت الدعوات أن يخرج الطفل سالما من هذه الرحلة في غياهبه الجب.
ما زاد الناس أملا في الحكاية أن الكاميرا التي نزلت إلى العمق السحيق كانت تلتقط صورا لريان يتزحزح ذات اليمين وذات الشمال، ثم يمد من الأعلى بالأوكسجين والذي كان أيضا ينعش خيال الناس.
رجل مسن اشتغل على مدى 23 ساعة متواصلة، تشبث بمقعده على الجرافة وظل ينبش تراب الجبل ثم جاء عمي علي من عمق الصحراء للمساهمة في الخطب العظيم بمعوله، بعدما اتخذ قرار الحفر العمودي لإحداث منفذ يصل إلى قاع الجب أملا في إنقاذ ريان.. رجال الدرك والقوات المساعدة يقاومون وسط جوقة من توافدوا ولم يناموا لتتبع الأحداث الميدانية، ويتعاظم الخوف على هذه الأرواح.. النساء البدويات يهيئن الطعام لكل الذين يرابطون في هذا الخلاء الليلي، ومنهم من يتحدى للدخول إلى قاع الجب.
في خضم توالي الأحداث، يعود الناس إلى معدنهم الأصيل وتشبثهم بقيم التضامن..
إنها جبهة لاختبار الله لما تبقى فينا من قيم التآلف والود والتراحم، في ظل أزمة وبائية عمرت بيننا ثلاث سنوات وأفرزت قيما بات عنوانها العريض التباعد الاجتماعي، لكن قصة ريان عادت بنا إلى الألفة الأولى التي جبلنا عليها..
لم يخطر ببالنا أن طفلا سقط من علو 32 مترا في قاع صخري لن يكون له أمل في النجاة، ولم نعد قادرين على استحضار مجريات الأحداث، بل كان لنا إيمان عميق أن ريان سيخرج سالما وحيا ليعيش بيننا ونحتفل معه بهذا العمر الجديد..
كانت قبل هذه الأيام كرة القدم بالكان قد زرعت بيننا الأحقاد وأذكت النعرات الإقليمية بين الأشقاء، لكن حكاية ريان جاءت على النقيض من ذلك ووحدت الناس في كل الأوطان..
الرمزية الدلالية لهذه المأساة بحاجة لكي نتأملها إبداعيا ونستخرج منها الخلاصات المفيدة للتأثير في هذا الواقع المبني على المصالح والصراعات بين الدول.
خلاصات وطنية لهذا التضامن الاجتماعي الهائل، والخلاصات الدولية التي صار فيها ريان ابنا لكل العالم.
رحل ريان إلى متواه الأخير لكن الأيام الخمسة التي تعرفنا عليه فيها وهو في قاع البئر ستظل تسائلنا عما ينبغي أن نكون عليه من علاقات إنسانية هي صمام الأمان لاستمرار وجودنا فوق سطح هذا الكوكب العنيد.