صوت الأُبوة والبُنوة في رسائل (إلى ابنتي) للكاتب عبد الحميد الغرباوي.

صوت الأُبوة والبُنوة في رسائل (إلى ابنتي) للكاتب عبد الحميد الغرباوي.
شارك

محمد غزلي

إلى ابنتي،  كتاب ينتمي لأدب الرسائل، أو التراسل، أو المراسلات. ولو أننا لا نستطيع أن نحدد موقع النص وجنسيته الأدبية وانتماءه لأدب الرسائل بدقة طالما لم نعثر فيه على رسائل الطرف الثاني.

وإذا كان التواصل عبر الرسائل الأدبية يتم بين طرفين، مرسل ومرسل إليه، فإن الطرف الثاني المرسل إليه هنا غائب لكنه حاضر في صورة شريك مراسلة متخيل، الأمر الذي يضع  الكاتب أمام خيار  افتراض متلقٍ مرسل إليه كان بإمكانه أن يكون حاضرا بالفعل وبتوقيعه الشخصي ليعبر عن نفسه، دون اللجوء إلى الحوارات المتخيلة، لكن الكاتب اكتفى بتخيل سؤالات الطرف المرسل إليه واعتبارها ردا من الطرف الآخر. وليس يخفى أهمية الرسالة والرد في أدب المراسلات، إذ  تعني لنا تناسل الأفكار وإغناء التجربة، لكنه فيما يبدو يفترضها في موقع المتسائل، إذ نعثر على تدخلات الإبنة من خلال  صياغات الكاتب وتساؤلاته، كما يقول ص 75 :  « تسألينني عن تضايق الناس من أي نجاح تحقيقنه.. وتقولين.. الخ. هكذا يفترض أجوبة لابنته « لَمْ تقولين إنه خطاب يمجد الأنانية..  وتسألينني…

ثم يجيب:

أتفهمك، أنا لا أدعوك إلى نبذ المثالية. 87.

يكتب إلى ابنة من نوع خاص، (إلى قارئ من نوع خاص)، تفترض قارئة نموذجية تلتقط الإشارة وتكمل فراغات الوالد.

إنها خطاب من أب، كذات تحمل في وعيها تجارب وتاريخ وتراث شفهي وثقافي، وبما تحمله من قيم وتصورات وملاحظات مستقاة من الذات ومن الآخر: يقول:

 » ليست محصلة تجربتي الذاتية وملاحظتي ومعاينتي في الحياة فحسب،  بل هي محصلة عقول باحثة وفاحصة قضت جزءا من عمرها في البحث والملاحظة والتأمل »89.

في كل الرسائل،  نلاحظ فحوى خطاب الأبوة بيد أنه وإن كان يعتلي مرتبة الأبوة  فإنه يتعالى على سلطتها، أو يتنازل عن سلطتها، متقمصا لغة المحاور المتعادل مع ابنته بخطاب لا يحاول أن يكون في موقع سلطة الوصي يقدم الوصايا من جهة أعلى نحو طرف أدنى، كما هو شأن وصايا لقمان الحكيم لابنه. بل هو حوار متبادل، ودعوة للتشارك في صنع التجربة.

يقول، « رسائلي إليكِ ليست وصايا ».  وفي نفس الصدد يقول الكاتب:

« قطعت عهدا على نفسي.. أن أكون منصتا لأفكارك وأرائك الخاصة » 19.

لا نشعر بأن الكاتب يكتب رسائل من أجل إمتاع القارئ،  بقدر ما نشعر به كأب بعيدا عن أي تقمص مزيف لدور الأب كما تمليه شروط التمثيل السينمائي أو طبقا لوظيفة الشخوص في النصوص السردية.

– صورة غلاف الكتاب لرجل يرفع طفلة إلى أعلى مفردا يديه تعطي الإنطباع بأن المستهدف الأنثى الطفلة فحسب، بيد أن الرسائل تتجاوز مخطابة الأنثى إلى مخاطبة أي شخص في مرتبة الأبوة باعتباره المنتج الأول والوالد والمربي،  وعلى اعتبار أن الطفولة مستمرة  في وجداننا وبقوة عبر مراحلنا العمرية المتقدمة، يقول: « أنا اليوم سعيد لأنك أحسنت اختيار الشخص المناسب ليكون صهرا لي، والذي له مكانة تماثل مكانة أخيكِ في قلبي. لكن تأكدي أنك ستبقين دوما في نظري طفلتي المدللة. 16.

والواقع الدافع أن الكاتب كأي أب له هواجسه، أب يخشى الفشل في مهمته التربوية، تدفعه هواجسه ليستنجد بالذاكرة عائدا إلى طفولته المحرومة، مسلطا الضوء على سلبياتها  كيلا تتكرر نفس التجربة مع أبنائه، نقرأ ص 18 « وعادت بي الذاكرة إلى طفولتي التي كانت قاسية وصعبة جدا، تجرعت خلالها المرارة، فقطعتُ وعدا على نفسي أن أعمل ما في وسعي كي لا يعيش [ الخطاب هنا عن ابنه الاول] طفولة شبيهة بطفولتي ». والدي كان يقول: لا أحد يريد لأحد أن يكون أفضل منه سوى الوالد مع ابنه.

مُلهمات الكاتب في رسائله:

لقد ابتدع الكاتب الغرباوي رسائله على أساسات تجربة إنسانية ثرية وملاحظات حياتية شخصية وقراءة متنوعة لمختلف الثقافات، والتي يمكن اعتبارها مصدر إغناء وإقناع، يقول ص31″غير ما مرة صادفت في قراءاتي عبارات تشبه الأم بالشمعة التي تحترق لاشيء لأبنائها.. »

يتكرر الأمر مرات إذ يقول مثلا ص 68: « وفي ما قرأت عن الكذب أنه انواع من بينها الكذب الدفاغي والكذب الادعائي والكذب الانتقامي ». مستعيرا مقولات وحكم قديمة لكن بإضافات جديدة، وهنا يتجسد ذكاء الكاتب، إذ أنه لا يجمُد على المتداول أو يكرره بطريقة آلية لكنه يضيف الجديد إلى التقليدي، وعلى هذا النحو يتصل الإبداع بالموروث ويتواصل معه. كم مرة سمعنا المقولة الشهيرة « الكذب حبله قصير » لكن الغرباوي وبوعي متجدد لم يسعه إلا أن يبدع ويضيف ويتخيل ما يتلاءم مع السياق الاجتماعي للفكرة التي يطرحها على ابنته إذ يقول: « الكذب حبله قصير وأنفه طويل » ص 69.

لا يميل الكاتب إلى إثبات رسوخ توجيهاته  بالاعتماد أساسا على تلك المقولات وإنما يقوم بذلك كفعل تفسيري تأكيدي إذ لا يرى حرجا من تمرير  مقولة لكاتب  حائز على جائزة نوبل في الأدب عندما يقول « هل اليوم الناجح هو الخالي من الهموم » ص 78 على سبيل التأكيد لا التأسيس.

إننا أمام  قراءات  تعكس اهتمامات/ ارتباطات الكاتب بالكِتاب والكُتَّاب وتعكس إحدى زاويا النظر لديه في محاورته مع ابنته ومع القراء.

على المستوى الإقناعي نجد أن الكاتب كذلك يستعمل

القصص، الحكايا الواقعية والأسطورية كمؤكد ومعزز لنظرياته وتوجيهاته التربوية والمستقبلية لابنته وللقارئ بشكل عام مهما كان قارئا مثاليا أو قارئا عاديا أو حتى غبيا بليدا. وعلى ضوء استنتاجاته منها يبني حججه في محاولة لضخ طاقة إقناعية قوية في خطابه. نتحدث هنا عن:

– الانفتاح على ثقافة الصورة عند تفكيكه لفيلم تايتانيك لإثبات رأي وتعزيز موقفه من قوة المؤثرات الإعلامية.

– الحكايا،  اُنظر مثلا حكاية حارس الأمير كيف قتله  خُلف وعد الأمير بمنحه معطفا يمنحه الدفء لكنه نسي فمات الحارس وكتب لم يقتلني البرد بل قتلني خلف الوعد. انظر ص 74.

– تجارب الآخرين، تحربة  الممثل العالمي هوبكينز مع ابنته ص 87.

ربما هي رغبة الكاتب في رفض نظام الوصي، أو ثقافة الشيخ والمريد، في التعامل مع الجيل الجديد من الأبناء، إنه يطرح تجاربه كمعيار دون اللجوء إلى   لغة التوجيهات المباشرة،  فهو يترك للآخر فرصة المعاينة، معاينة التجربة، من زاويته كقارئ مستهدف بأغراض القصة/التجربة/الرسالة. بمعنى أن الكاتب يحتال على فعل النصيحة، بحيث يقدمها من خلال التجربة الشخصية وليس من نافذة الأمر والنهي وطرائق التلقين القليدية البدائية.

يقدم لنا الكاتب كل هذه الأشياء في قالب نقدي أدبي كوسيلة توجيهية تربوية كفيلة بمعالجة تشققات علاقات النظام الإجتماعي التربوي الجديد.

لقد بدا واضحا طبيعة رسائل الكاتب عبد الحميد الغرباوي لابنته واتسامها بسلاسة قائمة على صدقية التجربة الشيء الذي منحنا قراءة سهلة وممتعة نستطيع أن نغلبها في القراءة لكنها حتما ستغلبنا في غزارة رؤاها ومعالجاتها، نستطيع أن نقرأها كما لو كنا نستمع إلى قطعة موسيقية ناغمة، وأكثر ما يحرك بواعثها الجمالية في ذواتنا كقراء هو أداؤها القصصي الذي يميز كاتبها الأستاذ عبد الحميد الغرباوي. نعم، الرسائل قراءتها شيء لكن كتابتها شيء آخر، النفاذ إلى عمق الرسائل يضعنا أمام بوح يعكس في كل سطر ملحمة عائلية، أزلية بمعناها الحكائي الدرامي، كل فاصلة هي تجربة وتاريخ وقصة مكتملة قد تكون مشروع رواية طويلة لو أردنا أن نقول، هي عمر ممتد من الطفولة والشباب مرورا بالزفاف والانتقال الى الزوجية ثم الكهولة والشيخوخة والموت في نهاية الكتاب/المكتوب..

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *