مت قاعدا أيها المتقاعد.

مت قاعدا أيها المتقاعد.
شارك

مصطفى فاكر

صادف مرور مجموعة من السياح الألمان تواجدي بمدينة مراكش، مدينة الجمال و النخيل، بدكان بزار مختص في بيع كل ما هو أثري قديم، و لأن مراكش مدينة سبعة رجال ،مر رجال و نساء يتجاوز عمر كل واحد منهم سبعين عاما و هم مازالوا في كامل لياقتهم البدنية و بكامل أناقتهم وجمال بشرتهم، يتبادر لك من أول نظرة أنهم ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية أو ينتمون لرجال المال والأعمال، يدخنون السيكار والسجائر الثمينة، بشوشين ،فرحين يوزعون الابتسامة هنا وهناك ،متشبثون ببهجة الحياة وجمالها، يستغلون كل لحظة جميلة، يعلمون أن الحياة مرة واحدة.

احترت في أمرهم من خلال دردشتهم وحديثهم الشيق مع صاحب البزار الذي طفق يتحدث معهم بلكنة ألمانية ركيكة، لكن سرعان ما استدراك أحدهم الأمر و سأل صاحبي: أتتحدث الإنجليزية ؟.

أومأ صاحبي بالإيجاب، ومن فرط الفضول الذي يتملكني قلت لنفسي: لا بأس في أن أستدرج أحدهم لمعرفة طينة هؤلاء القوم، و ما السر في هذه النضارة و في هذا البهاء و الجمال وهم في أرذل العمر؟!!!.

وفي غمار الحديث عن ثمن السلعة و التفاوض حول الثمن بين العرض و الطلب، سألني أحدهم عن ثمن المنتوج المعروض للبيع، فما كان مني إلا أن أجبته: صديقي هو صاحب السلعة أما أنا فمدرس و أقضي تمضية العطلة بجانب صاحبي في دكانه.

بادر الشيخ الألماني و صافحني بشدة و همس قائلا: أنا أيضا كنت مدرسا بألمانيا و هؤلاء كلهم كانوا مدرسين فتقاعدوا.

تجاذبنا أطراف الحديث في ما يتحمل المعلم من أعباء ونمط التعليم بين ألمانيا و المغرب، و أكد لي المتقاعد الألماني أن أول شيء يقوم به المستشار الألماني هو اهتمامه بالتعليم و بالمعلمين، إنهم و كما قال الطبقة الأولى في المجتمع، واستطرد مضيفا: إنهم الأس المتين في بناء أي مجتمع يروم التفوق والتقدم، والمدرس الألماني هو أساس تقدم ألمانيا، لهذا فالدولة ملزمة برد الجميل لهم مدى الحياة من تطبيب و استشفاء، فالمعلم هو من يصنع الدولة ،وهو من يعد الأطر العليا لتتحمل مسؤولية التسيير و التدبير…و سألني إن كان المعلم يعيش نفس الوضعية هنا بالمغرب. عضضت شفتاي من كثرة « الغديد » و كنت سأطلب منه سيجارة لكنني تذكرت أنني أقلعت عن التدخين.

لم أرغب أن أحكي له عن معاناة المتقاعدين و العاملين في القطاع، خشيت أن أبدأ في السرد و الشكوى ،فالشكوى لا تكون إلا لله ،هكذا وصتني  جدتي مخافة أن يسقط مغشيا عليه و ربما يصاب بالسكتة القلبية،و تبدأ التحقيقات تتدفق علي من هنا و هناك، و قد أتسبب في توتر العلاقات بين المغرب و ألمانيا.

اكتفيت بالقول: إن المتقاعدين عندنا تخصص لهم الحكومة في كل درب مكان للعب الضامة والروندا…المتقاعدون عندنا لا يحملون في أيديهم آلات تصوير رقمية و إنما يحملون أكياس أدوية، بداخلها إبر الأنسولين بسبب الضغط و رابوز الضيقة بسبب الطباشير و جدران القاعات المشبعة بمادة لاميونيط…المتقاعدون لا يدخنون السيكار و إنما يدخنون « كازا أو ماركيز »…المتقاعدون المكان الوحيد الذي يسافرون إليه هي تلك المدن التي بها كبريات المستشفيات للعلاج أو من أجل الفحص بأجهزة سكانير…المتقاعدون لا يذهبون إلى البازارات و إنما عند العطارة لاستكمال وصفات طبية عجزوا عن شراءها من الصيدليات.

ألمانيا التي خربتها الحرب العالمية، نهضت و استفاقت من جديد كطائر الفينيكس و احتلت الريادة في كل المجالات بفضل جودة تعليمها و بفضل رد الاعتبار لمعلمها، فساندوه و احترموه و قدسوه شابا ،كما زادوا من تكريمه و تبجيله و هو شيخ متقاعد.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *