رحمة والمرايا
بقلم حسن برني زعيم
رأت وجهها في ماء البركة، تتبعت تقاسيمه وهو يتموج كدوائر تدفعها ريح،
آلمها أن ترى وجهها يتخذ أشكالا مختلفة ولا يثبت على حال، تقدمت قليلا في وسط البركة ، أحست أنها تتسع شيئا فشيئا، فترددت لحظة ثم اندفعت تلاحق صورتها وهي تتساءل: كيف تحيا الصورة وتقاوم البلل، أمعنت النظر في حدود محياها ،انحنت ودست يدها في الماء متلمسة طرفا من وجهها، اختف الصورة تماما.
أخرجت يدها من الماء واعتذرت مرتين؛ مرة للبركة، وأخرى للصورة، تراجعت بضعة أقدام ، ظلت ترقب حال صفحة الماء حتى تستقر كما رأتها أول مرة، بدأت ملامح الوجه تتجمع ببطء شديد…أتعبها الانتظار كثيرا، تساءلت : ماذا يجري ؟ كيف أرى وجهي؟ فأنا إن تقهقرت اختفى ، وإن تقدمت تبعثر، وإن هبت الريح تشوه، ولست أدري ما يحدث بعد حين…من يقف وراء كل هذا؟ من يحرك الريح؟ من يشوه الوجوه؟
… سمعت صوتا خافتا يقول: أنت صفاء ناعم في ماء البركة ، وجسد صلب خشن في مكان آخر…وستظلين في هذا المكان حتى تلتحم الصورتان في واحدة، وستختبرين صورتك في حالين مختلفتين ؛ حينما تمسين أو تنامين وأنت أميرة، وحين تصبحين أو تصحين وأنت خادمة أو جارية أجيرة…
نظرت إلى السماء ، حضرت ذكريات طفولتها كالبرق…تذكرت أختها أمينة وأخاها عبد الله وابنة عمها ليلى وأبناء الجيران…تذكرت القرية التي ولدت فيها،ولم تدر كيف ولا متى تركتها…حاولت أن تتخيل صورة أمها أو أبيها …لم تفلح؛ لعلها لم ترهما قط …
عادت بعينيها لترى صورة وجهها في ماء البركة، بدت حسناء ، فأخذت تقترب منها برفق كي لا تزول ، فقد أدركت أن بقاء الصورة رهين بهدوئها وثباتها في مكانها، وبلطف الريح ، وصفاء الماء…فكرت في اختراع وسيلة للاحتفاظ بها، فهي تراها جميلة لأول مرة، التفتت يمينا وشمالا، كتمت أنفاسها ،سمرت عينيها في الصورة وأمعنت، نزلت قطرات ماء خفيفة معلنة نهاية فصل الخريف ، مرة أخرى تبعثرت الصورة، تلاشت…
كلمت نفسها بصوت خافت:” رحمة…رحمة…لمن تلك الصورة؟ أي صورة؟ التي كانت هاهنا…تحت الماء…فوق الماء…في الماء…في البركة…إنها جميلة جميلة…”
بعد لحظات ، استقر حال ماء البركة فظهرت الصورة من جديد ، غير أنها باهتة، فقد مالت الشمس نحو الغروب…
صاحت رحمة :” لا تتركيني وحيدة…ما عندي سواك…ومالك سواي …أنا وأنت وجهان لشيء واحد…لصورة واحدة…لحال واحدة لأمر واحد…”
أخذت الصورة تخفت شيئا فشيئا حتى توارت عن ناظر رحمة…
2 / 2
تنهدت …تركت البركة ورجلاها باردتان من طول الوقوف في الماء ، جلست على مرمى حجر تنتظر ضوء القمر لعلها ترى صورتها من جديد، وظلت تفكر في وسيلة لتحتفظ بها…
لم تكن الليلة مقمرة ، نزل الظلام …تقدمت رحمة نحو البركة بهدوء ، عبرت الماء بضعة أقدام، نظرت إلى أسفل تفتش عن صورتها…انتظرت قليلا حتى صفا الماء، لم تر سوى النجوم تتلألأ ، رفعت بصرها إلى السماء فرأت النجوم نفسها…فقالت: ” يا ليتني رفعت بصري إلى السماء بالنهار، لو فعلت لرأيت وجهي في السماء عوض البحث عنه في الماء”.
تركت البركة وما حولها وعادت من حيث أتت، وهي تردد :” غدا سأعود لأرى صورتي في هذه البركة الصافية …فما عكست مرايا الدنيا صفاء وجهي حقا…
عادت رحمة في اليوم الموالي، وكان برق و رعد وزمهرير وسيول … ولم يبق للبركة أثر…