الأنا المتورّمة: في ضرورة التخلص من وهم التفوّق ومن نرجسية الذات
بقلم سعيد ألعنزي تاشفين
غالبا ما يحتاج الإنسان الى تفتيته شظايا ليتحرّر من مختلف القيود التي تستعبده وهو يظن أنها تمنحه التفوق. يحتاج حتما لتفتيت مختلف تلك القيود التي يَرضعها من المجتمع منذ فجر ولادته كالفخر بالانتماء الضيّق الى عِرق ما، أو بلدة ما، أو عشيرة ما، أو عائلة، أو أي انتماء ضيق أخر.
المجتمع البشري ، من خلال تعقّب التحول الأكبر من حالة الطبيعة إلى حالة الثقافة ، كما بيّن وول ويريل ديورانت في الجزء الأول من مجلده الضخم ، عاش حالات انغلاق كثيرة تحت دواعي الخوف كسلوك نفسي فردي – جماعي من الطبيعة ، و هو ما عمّق الانتماء لديه إلى مختلف البناءات الضيقة كشكل من أشكال الدفاع عن حميمية الذات . و يبدو ٬ في تصوري ٬ أن البنية الجماعية تُربّي الأطفال منذ نعومة أظافرهم ليصبحوا جنودا في حروب نفسية تنتصر للدوغمائيات الذاتية الضيقة من لون ، و جنس ، و دين ، وعرق ، و مكان ، و عشيرة .. ، ولكي يصبح هؤلاء الأبرياء جنودا يحتاج الأمر إلى كثير من التحريض باسم توليفات متوافق عليه ، عن كُره مرِنٍ ، بعد التطبيع مع معاداة الأخر من مدخل الترويض الذي يحمل توافقا صفةَ التربية ، وهذا الحُمق ، و ما يرافقه من رغبة بتكريس الأفضلية على الآخر ، يُحقّق لدى بعض الناس إحساسا بجنون العظمة وهو ما يفضي إلى استصغار الغير و الاستخفاف به ، ثم ممارسة الإزدراء عليه ؛ ونجد ما ارتكبه الإنسان الأبيض الأوروبي مثلا ضد الهنود الحمر من إبادة جماعية خلال زمن الاكتشافات الجغرافية مِثالا للبطش بالأخر من موقع الإحساس بالأفضلية ، و أمثلة كثيرة في مجالات أخرى كما فعل المسيحيون بالمسلمين ، وكما فعل المسلمون بالمسيحيين ؛ داخل دوائر الحروب الدينية التي أضفت طابع القداسة على همجية الصراع .
** في » ثقافة » الانغلاق :
يكفي ، مِثالا لا حصرا ، مع عيّنة من الناس ، أن تنتقد بلدته ، عشيرته ، لونه ، عرقه ، مهنته ، وكل انتماءاته الضيقة ؛ ليشعر بالغضب كردّ فعل بسيكولوحي عنيف يمتح من مرحلة الطفولة المبكّرة التي كرّست لديه الإحساس بالتفوق على حساب دونية الغير ؛ وما التربية هنا بلغة جون ديوي إلا قولبة واضحة لحالة الطبيعة .
ويكفي أن تنتقد الدين ، العرق ، العائلة ، أو غيرها ؛ حتى تظهر لك الأورام النفسية التي تشكّلت كطبقات من عُقد صلبة في ذهنية البشر ، هذه هي الأنا المتورّمة التي تدفع إلى شعور عميق بالألم حيث يبدو البشر من أكثر الحيوانات تطرفا في تقديس الذات واحتقار غيرها ، وعليه ظهرت مقولة » الجنس الآري » بألمانيا ، وظهرت فكرة » شعب الله المختار » منذ مؤتمر بال بسويسرا نهاية القرن التاسع عشر حول الصهيونية ، كما ظهرت تأويلات تسوّق للأفضلية باسم » خير أمة أخرجت للناس » ؛ وكل هذه توليفات تمتح من المقدس المتعالي ( التاريخ / الدين ) قصد احتكار الشرعية في تعظيم الذات ونسف الغير . و لا مراء أن مأزق تبجيل الذات و تبخيس الأخر ما تزال تلازمنا إلى الأن حيث يكفي أن تدرس أساليب » لمعيور » في الثقافة الشعبية لتكتشف ترسانة من العبارات التي تمجّد الذات وترتّب إسقاطات نفسية سلبية جدا ووخيمة على الأخر الذي يستحق التحطيم في لعبة الحرب المتخلفة على أساس وهم التفوق .
** في تداعيات الوهم :
يبدو أن الوهم مستشري لدى فئات عريضة بحيث يُفضل أحيانا أن تتماهى مع الكذب على الناس من أن تُخبرهم بالحقيقة ؛ فالناس يُحبون الوهم و يكرهون الحقيقة كما قال نيتشه في معرض تفكيكه ل » جينيالوجيا الأخلاق . وعليه فالناس يحبون الوهم ويكرهون الحقيقة لكونها تكشف عنهم أقنعة الضعف والوهَن ، ثم ترتيبا على ذلك يميلون إلى الوهم كحيلة نفسية تُضمر ما يحصل بالعمق من انهيارات تختزنها الثقافة في عمق العقل الباطن كما بيّن مصطفى حجازي في » التخلف الاجتماعي مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور » . لذا نجد نماذج كثيرة لحالات يتحكم فيها الوهم دون شعور ، إذ هناك من يعتبر نفسه أفضل من الغير ، فيسوّق الوهم لنفسه ويعيش حالة تلذذ بعقدة التفوق مع ما يواكب ذلك من ممارسات تبلغ أحيانا درجة البانارويا في تقديس الذات والعنف في تحطيم الغير . لذلك فالمرء يرتبط ارتباطا نفسيا بوهم التفوق على غيره كأن يعتبر المسلم نفسه الأقرب إلى الله مقارنة مع غيره من المؤمنين بالعالم ، أو كأن يعتبر الأبيض نفسه أفضل لكون التوافق حصل على أن البياض يرادف الجمال وأن السواد يرادف القبح داخل نمطية متخلفة ، مع ما انتهى إليه ذلك من بسط الاستعلاء وفرض نظرة ازدرائية على المختلف . أو كأن يعتبر الرجل نفسه أفضل قِوامةً من المرأة مع ما ينتج عن هذا من تحطيم صورة المرأة كما يحصل مع الثقافة الشعبية التي تنصح » السي السيد » ب » شاورها ومادير ريْها » ؛ بمعنى على الرجل أن يستشير المرأة دون أن يقبل برأيها ، لكون المرأة ناقصة عقل ودين !! ولكونهن » عقولهم في فروجهن » !! وهذه عبارات فاشستية – عنصرية يتم التطبيع معها في الثقافة الأنتروبولوجية عبر النكتة والمثل الشعبي والزجل وأساليب » لمعيور » حيال النوع . و هنا يتم الرجوع أحيانا إلى المقدس المتعالي قصد استعارة الشرعية لخطاب التفوق لصالح الرجل ضد المرأة مثل توظيف سياق خاص بين النبي يوسف عليه السلام وزوليخة زوج عزيز مصر في معرض قوله تعالى { إنه من كيدكنّ إن كيدكنّ عظيم } ؛ وعليه يحصل إسقاط وصف الكيد على كل النساء رغم أن سياق يوسف النبي مرت عليه ألاف السنين ، و رغم أن النساء ليسوا كلهن زوليخة والرجال ليسوا كلهم يوزارسيف مصر . أو أن يحصل التفوق باسم الانتماء الضيق للمجال ، وعليه يحصل نوع من تضخيم إيجابيات البلدة التي ينتمي إليها الفرد مع استصغار غيرها من البلدات داخل إحساس نفسي بالتفوق . وأعتبر أن تصنيف مناطق المغرب إلى جهات » الله إعمرها دار » وجهات » الله إخليها سلعة » يفيد ما أتحدث عنه من تصنيف البشر وتنميط السلوكات والأخلاق من منطلق المجالية الضيقة ، و هذا لا يخلو من شوفينية مجالية بشكل ما على أساس ما أسميه ب » الحتمية الجغرافية » التي تشكّل منطلقا لبناء تاريخ عريض من الوهم لصالح مناطق ضد مناطق أخرى . وأستنتج أن الوهم متعدد إذا ، حيث إضافة إلى ما سلف القول ، نجد وهم البطولة ؛ كأن يصف مناضل عاش في مرحلة السبعينيات ( أي زمن ماض ) مناضلي اليوم بأنهم » المناضلين ديال تاخير الزمن » !! » الله الله كنّا حنا ف السبعينات سبوعة » ؛ ومثل هكذا نظائم نفسية تلازم أصحاب وهم البطولة الذين يرفضون ولادة أي نمودج نضالي يزعزع مكانتهم لدى المخيال النفسي العام ، أو لنقل صورتهم بالمزاج الجمعي . وعليه تجد » المناضل » القديم يرفض كل من ينافسه في الحظوة الرمزية داخل نسقية السوق النضالية المتحركة على نقيض رغبة هذا المناضل التقليدي في تثبيت عجلة التاريخ في حدود وهم التفوق لديه كما كان في لحظة تاريخية عابرة زمنيا لكنها ثابتة في العقل الباطن كشكل من أشكال الدفاع التعويضي عن انهيارات الراهن ؛ وهذا سبب رئيس يكرّس النظرة الثراثية لأحداث الماضي . و يمكن تعقّب خصوصيات الخطاب الحزبي ( السياسي عموما ) ، أو الخطاب النقابي أو الحقوقي ؛ لتكتشف مباشرة عدة مراسيم فولكلورية تفيد صراع الأجيال حتى أن الجيل القديم يمارس كثيرا من التضخيم التاريخي لأحداث الماضي بغية شرعنة احتكار البطولة ضدا على » الوافدين الجدد » الذين ليسوا إلا نسخة مزورة من النضال السياسي – النقابي – الحقوقي . و نسجل أن منطق العمر يلعب دورا سيكولوجيا تعويضيا كذلك بحيث تتم العودة النفسية إلى العمر قصد تقليم تميز » ولاد اليوم » الذين ليسوا إلا صورة مباشرة ل » لبراهش » على نقيض » الرْجال د بالصّْحْ » ، و هنا نفسيا أيضا تتوطد ٱليات الأستاذية كوهم متكرّر في بنية الخطاب السياسي لدى الأحزاب » التاريخية » ضد من يفتقر إلى الخبرة كما يدعي رواد سيكولوجيا الهوية القاتلة باسم نزعة التفوق كوهم مؤسِّس لصِدامات الراهن . ولا شك أن دينامية التاريخ كما أبرز مصطفى حجازي في » سيكولوجية الإنسان المقهور » تشكل حدثا مؤلما بالنسبة للجيل القديم الذي يتذكر بطولات الماضي التليد عندما كان هذا الجيل وحده يمتلك شرعية الفعل السياسي – النقابي – الحقوقي – الجمعوي ، وبعدهم لا توجد أية شرعية !! ؛ ذلك أن التاريخ توقّف في لحظة انتصار بسيكولوجي مضخَّم في دهاليز الآليات النفسية التعويضية التي لا تخلو من حسّ وجداني رومانسي يجعل ماضي المناضلين ذهبيا ، أما الحاضر فهو زمن النضال المزيّف ، والفكر المزيّف ، والبطولة المزيّفة ، والعمل الجمعوي المزيّف ؛ أي إنه زمن المسخ ، إذ كل ما لا يرتبط بالتاريخ الذهبي كما يتصوره الجيل التقليدي غير انحرافا وزورا يستحق إعلان حرب التخوين خدمة لنهم نرجسية الوهم . هنا تتضخم » بروستات » العقل ويحصل نوع من الاحتكار النفسي لأسطورة التفوق عبر توظيف الأنا الأعلى مع ما ينتج عنه من إدراكات سلبية تسيء لتداول الأجيال ، علما أن القائد الحقيقي يسعد بخلق قادة جدد يحملون المشعل ، وهذه قناعة تغيب بعلة الذات المتورّمة .
** استنتاج حول تراجيديا اغتراب الحاضر :
أخلص إلى أن وهم التفوق يخلق كائنات ثراثية تنظر بعين التلذّذ إلى الماضي الذي كان يكتنز بطولات وهمية محدّدة في خصوصيات السياق ، حيث إن كل ما لا يمتّ للماضي بصلة لا يعدو أن يشكل زيفا وزورا وانحرافا عن بَكَرَة الشرعية . ولا يجوز فقط إتهام الحركات الإسلامية بالنزعات الثراثية كما فكك حسين مرة في متنه الضخم ، بل نجد حركات علمانية ويسارية وليبرالية لا تخلو أيضا من الهروب اللاواعي – البسيكولوجي نحو » أمجاد الماضي » و » بطولاته » قصد التعويض عن انهيارات الحاضر ، حتى إن الفرد عندما ينهزم يرجع لا شعوريا إلى ماضيه قصد التخفيف عن تداعيات الفشل الحاصل ومن رجّات اليوم ، كما أن الحضارة عندما تبلغ مبلغ الشيخوخة ترجع إلى الماضي ، و هنا يحصل تضخيم الأمس على حساب فهم حقيقة فشل اليوم ضمن لعبة التحايل على منطق التاريخ .
ولكي نتخلص من الأوهام المرضية داخل جينيالوجيا أخلاق العبيد حريّ اعتبار كل النماذج البشرية نسبية ، إذ لا مطلقَ أبدًا . و هنا يجب أن تنمحي كل الشرعيات لصالح شرعية واحدة هي نسبية كل شيء ؛ وعبر هذه النسبية يتمّ الحسم مع تداعيات باطولوجية الوهم ، ثم الانفتاح على نسبية الفهم وتقدير الوجود ؛ ولقد صدق نيتشه حين قال » ليس الشك ما يقتلنا ولكنه اليقين » .
وختاما: تجربتك في الماضي نسبية ، جمالك / قوتك / نزاهتك / رجولتك / أنوثتك / شبابك .. كلها معايير نسبية . أنت لا تملك الحقيقة حتما ، كما لا أملكها أيضا ، فكلنا لا نرى من الأشياء إلا النزر الخفيف جدا ، وما يبدو لك حقيقة اليوم قد تكتشف غذا أنه مجرد وهم ؛ شريطة أن تؤمن أنك كنت طفلا ثم أصبحت شابا ، وستصبح شيخا عجوزا ؛ وذات يوم آت حتما ستموت ؛ وهذا الموت حقيقة مطلقة لا يفنّدها علم و لا جنس ولا مال ولا سلطة ولا جاه ، وصدق سقراط عندما قال : » كل آت قريب والموت آت إذا الموت قريب » . ومع الموت كحقيقة مؤلمة تواضَعْ يا بشر ، وتخلّص من وهم تفوقك ؛ فالشيخوخة داء ، والمرض داء ، والموت صدمة أنطولوجية تُربك كلّ وهم .