الجينيالوجيا وآليات تجديد الوعي التاريخي لما بعد الحداثة
بقلم سعيد ألعنزي تاشفين
يوضح فريديرك نيتشه عبر فلسفة القيم مهمة الإنسان الجينيالوجي ، فإذا كان السؤال الأفلاطوني يتمثل في : » ما هي الحقيقة ؟ » ، و السؤال الديكارتي يمثل في » ما الذي يكون الأساس اليقيني للتفكير والوجود ؟ » ، و السؤال الكانطي في » كيف يمكن للذات أن تعرف في حدود التجربة الحقيقية معرفة متعالية ؟ « ،والسؤال الهيجلي في » كيف تتجلى الحقيقة المطلقة و يتحقق المطلق في التاريخ ؟ » ، فكيف يتشكل السؤال الجينيالوجي ، وما هي الجينيالوجيا التاريخية ؟و ما هو دورها في التاريخ ؟
كل تلك الإشكاليات تصبح غير ذات معنى حينما يظهر السؤال الجينيالوجي الذي يتميز بطريقة نقدية شرسة ولاذعة ، إن النقد الجينيالوجي هو خلخلة ونسف، ووسيلة في التفلسف ؛ إذ يستجيب هذا المنهج التاريخي بقوله » نعم » ، هذه ال » نعم » لا يقولها للهوية و » التطابق » بل للصيرورة و » التكاثر » و » التكوثُر » و » الاختلاف » ، إذ ينبجس نور السؤال النيتشوي / الجينيالوجي ( مستعملا المطرقة) من داخل العتمة المُنمطة الدغمائية النسقية ، ليبحث عن » من يبحث عن الحقيقة » عوض البحث عنها ، و » ماذا يريد في نهاية الأمر » ؛ فضمن هذا الحيز الجديد الرامي إلى المسك بالحقيقة التاريخية تظل تتردد أصوات مختلفة و معان متعددة : ضبط جينيالوجيا الفيلسوف ، و تحديد تركيبته النفسية ، قسوة الإتهام وعنف الشك، السخط على تأويلات الميتافيزيقا والتعرية الجذرية للأمور و فضحها ، الوعي بمأساة معرفة الحقيقة التاريخية ، وتعيين نمط الإرادة ومعدنها .
ينهال السؤال الجينيالوجي بضربات المطرقة على الميتافيزيقا وعلى الأصنام ( ميتافيزيقا الحداثة وأصنام الغرب ) منذ أن تأسست في نظرتها للوجود والمعرفة والمنطق والتاريخ ( نيتشه يؤسس لما بعد الحداثة عبر المطرقة التي تنهال على قيم الحداثة ) ؛ فالجينيالوجي لا يتساءل مثلا عن : ما هو الحق؟ ، ما هو الخير ؟ ، ما هو العدل ؟ إذ هي أسئلة ماورائية لا فائدة من استحضارها بالنسبة للجينيالوجي . سؤال نيتشه ليس ميتافيزيقيا ، إنه كما يصفه جيل دولوز » سؤال عمن le qui » ؟ لا سؤال عمن هو الصادق أو الطيب ؟ بل عمن يضع جمال الأشياء و حقيقتها ؟ وعليه ليس على الجينيالوجي أن يكون فيلسوفا : حكيما و عالما ، بل عليه أن يكون طبيبا للحضارة ، فزيولوجيا ونفسانيا ، فنّه التشخيص le diagnostic ، ومنهجيته الجينيالوجيا .
إن الجينيالوجي يُمَسرِح الأفكار le généalogiste dramatise les idées، إنه يحرر القوى في حضور أسلوب الحياة ، على شكل تفعيل وبالتالي فإن الجينيالوجيا في آن واحد هي المسار التاريخي لنشوء المفاهيم والكشف عن النوازع الأخلاقية والحيوية لهذه المفاهيم ، ومن ثمة الشك في مصداقيتها المطلقة للتعارض معها ، ( تفكيك الدلالات وفهم تشابكها وتصارعها وإعادة ترميمها ) .
إن المعنى هو المكان الذي تفعل فيه الفوارق ، و المفهوم هو المجال الدلالي الكاشف عن النمو التاريخي بتبديد التأويل وتأويل تأويلات التأويل .
** الحاجة إلى فلسفة التاريخ عبر » مزهريات فلسفية «