) بنية المكان وتجلياته السيميولوجية في رواية « ملحمة روسيو »
عبد الكريم عباسي
لكل رواية فضاء لا يمكن الاستغناء عنه أو إغفاله أثناء كل قراءة نقدية لأنه يعتبر ذروة المنجز الروائي الذي لا يتحقق إلا بوجوده، فهو الذي يساهم في تحريك الأحداث وتناميها عبر سيرورة السرد وأفعال الشخصيات …، كما يساعد على تحريك خيال المتلقي …وغالبا ما يحاول كاتب الرواية أن يختار الفضاء المناسب الذي بإمكانه أن يترك انطباعا جماليا في نفسية القاريء … والمكان في الرواية ليس جامدا وقارا لأنه يتميز بالثنائيات الضدية والانغلاق والانفتاح ، كما يوحي بالقلق والحزن أو البهجة والسرور وكل ما يخالج النفس من خواطر وتأملات ،وقد يتجاوز ما هو واقعي وهندسي ليتحول إلى فضاء مجازي حينما يتم تشكيله لغويا بجملة من المشاعر والانفعالات والتصورات التي يبعثها المؤلف في عمق المعاني المضمرة التي تحول المكان الحقيقي إلى مكان سيميائي وينتقل من صورة بصرية الى صورة لغوية وهو ما سنحاول الوقوف عنده بإيجاز في هذا العمل الروائي
أحداث ملحمة روسيو متنوعة ومركبة ومتداخلة، تمزج بين السيكولوجي والرومانسي والثقافي والتاريخي وبالتالي لا يمكن تحديد موضوعها بشكل دقيق إلا بتتبع كل المتواليات السردية متكاملة ..وهذا التنوع التيماتي هو المحفز على متابعة سيرورة الحكي من وضعية البداية الى النهاية ….
بطل الرواية ‘خوسي » الكاتب البرتغالي الشهير يعيش اغترابا وعزلة مع زوجته، يكابد ويجاهد من أجل تحقيق توازن سيكولوجي بين رغباته الذاتية ورغبات زوجته العنيدة، يتابع الأحداث عبر تقنيات التواصل الاجتماعي، يقرأ باستمرار
منشغل بإنجاز عمل أدبي « ملحمة روسيو ». وهذا التنوع والاختلاف في شخصية خوسي يقتضي حتما تنويع المكان من لحظة إلى أخرى وفق تسلسل زمني تفرضه السيروة الحكائية ومنطق الأحداث المتسلسلة والوضعية المناسبة لتحرك الشخصية…
لا يحضر المكان في ملحمة روسيو باعتباره مجالا هندسيا أو طبوغرافيا فقط ،بل يتحول إلى مجموعة من الدوال والرموز القابلة للتأويل والتأمل في الإيحاءات والرموز الخفية خلف اللغة الظاهرة وهو ما سنكشف عنه من خلال حضور مدينتي لشبونة وإشبيلية
تتجلى مدينة لشبونة بجمالها العمراني ومقاهيها ومطاعمها وحدائقها وما تزخر به من تراث تاريخي يجسد الهوية الثقافية للشعب البرتغالي المتشبث بموروثه الثقافي المتنوع ولقد ساعد الوصف الدقيق على نقل هذا المكان من مستوى بصري محسوس إلى صورة ذهنية تحيل على جملة من الرموز المضمرة، ليتحول المكان الواقعي بمكوناته ومحتوياته إلى علامة سيميائية تحيل على دلالات سيكولوجية واجتماعية وتاريخية ،وهكذا تتحول مدينة لشبونة إلى بعد من أبعاد التاريخ البرتغالي العريق وهو ما تحيل عليه ملحمة روسيو التي كتبها خوسي من أجل رد الاعتبار لهذا التاريخ الوطني …ولا يقتصر الأمر في هذا الحضور الرمزي للمكان على مدينة لشبونة فقط ، بل يتجلى أيضا في مشاهد سردية أخرى مختلفة حينما انتقل خوسي من لشبونة الى إشبيلية للقاء حبيبته « إلينا « بعدما أخفى سبب سفره عن زوجته ليتخلص من ضغوط العمل المهني المسترسل وجحيم البيت والزوجة ورتابة الحياة اليومية التي لا تنتهي …
إن فضاء « إشبيلية » المجازي كما تم تحديده من خلال رؤية السارد يحيل على الرومانسية والانشراح والتحرر من ضغوطات البيت والزوجة واقتناص لحظات المتعة الحميمية مع « إلينا » في أحد الفنادق الفخمة …ويتحول من مكان جغرافي واقعي الى مكان تاريخي يجسد هوية وحضارة عريقة ، ويبرز البعد الحضاري في ما تركه المسلمون من آثار عمرانية تشهد على النبوغ والعبقرية …تبرز الجيرالد وقصر المعتمد بن عباد والمطاعم العربية والموسيقى الشرقية والأندلسية وجمال الشوارع والأزقة ….، وكل ما يحيل على الهوية والتاريخ والثقافة والفنون الشعبية الشاهدة على فترة الحكم العربي في بلاد الأندلس
هكذا تمكن الاستاذ عبد الكريم عباسي في هذه الرواية أن يركز على الوصف الدقيق للمكان، وأن يلائم بين واقعيته ورمزيته وأبعاده البلاغية حتى لا يصير مجرد ديكور جامد يتم توظيفه من أجل التزيين فقط
المقالة القادمة
تداخل وتعدد الأصوات والشخصيات في الرواية
يتبع ….