الفوضى العالمية القادمة

الفوضى العالمية القادمة
شارك

دخالد فتحي

         لم يمضغ غوتيريس كلماته، وهو ينذر العالم في خطابه الأخير بفوضى عارمة ستضربه. فللرجل من الأسباب ما يبرر نبرته المتشائمة: تحدث طويلا للدول عن الغضب، والكراهية، والضجيج الذي يملأ الأرض. وعن الحروب التي لا تنفك تندلع في بقاع عديدة منها، وعن تفنن التكنلوجيا في اختراع ما سنتقن به أكثر قتل بعضنا البعض.

 ليست الفوضى ما أزعج الأمين العام للأمم المتحدة، فهي قدر البشرية الذي لم تفر منه طيلة تاريخها، بل الانقسامات الغير المسبوقة التي تشل مجلس الأمن، والتي ستجعله عاجزا عن التحكم في اضطرابات العالم، مما سيعجل بيوم القيامة، ويدمر الكوكب برمته. . أليس السرطان لا يغتال الجسد الا حين تدخل خلاياه في فوضى يعجز عن تدبيرها ؟؟.

في وقتنا الحالي تهجنت الحروب وتعددت، صارت في نفس الآن عسكرية، وحضارية ،واقتصادية، وسيبرانية، ونفسية، وقيمية ، وحتى  كلامية ورياضية .

 ثم هي الآن حروب بين الدول، وداخلها، وضحاياها مدنيون، وأطفال ،ونساء، و الأدهى من كل هذا  شن البشرية حربا على نفسها بما تكسبه من   علم و تكنولوجيا ،فالطبيعة لم تنج بدورها من شراسة البشر،  الذين دمروا منظوماتها البيئية ،وخرقوا المركب الذي يعيشون فوقه ،مفرغين حتى حروبه البينية من اي  مكسب او معنى ،ما داموا  قد صاروا مهددين جميعا   منتصرين او منهزمين بالفناء.

زد على ذلك، هذه المشاكل والحروب الجديدة التي يرميها بوجهنا هذا الإخفاق في تأطير الذكاء الاصطناعي المنذر بالويل والثبور وعظيم المصائب.

 لقد تحسر غوتيريس، وهو يرثي مستقبل العالم ، على  الغياب الفظيع  للميكانيزمات التي دبرت صراع  الدول العظمى أثناء الحرب الباردة ،مكررا لوعةبوتين حين قال  ذات يوم بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان عبارة عن  كارثة.

 لقد كاد يقول ان العالم يعاني الآن من التفتت المفرط للقوة ،فمن القطبية الثنائية ، انتقل  أولا  إلى قطبية أحادية:  انهار جدار برلين ، و صارت أمريكا  القوة العظمى، لكنها بعد ذلك  لم تنجح في ان تكون الدركي  الأوحد للعالم   ولم تنه التاريخ.  لنتتحول لعالم متعدد الأقطاب، او بالأحرى لا قطبي

 وهنا مكمن الخطر: ان تتزايد التهديدات دون قوى قادرة على ان تتوافق على قواعد لفرض النظام. فالمشهد الدولي يضطرب و لم يلد بعد نظامه الجديد. ،تاركا  البشرية  لمصيرها القاتم ، واوكرانيا غزة، أبلغ  مثالان على ذلك .

 بصف غرامسكي مثل هذه الحالة بمقولة شهيرة: « العالم القديم مات، بينما تتأخر ولادة العالم الجديد، وفي مثل هذه الازمنة الرمادية تنبعث الأهوال » حقا نحن نمر بمرحلة انتقالية محفوفة بالمخاطر، لا نعرف أين نسير. ، ما نحسه هو أننا نواجه سيناريوهات شتى :إليكم مثلا هذا السيناريو الأكثر بداهة :لسوف يضغط  ازدياد سكان العالم على الموارد  الطبيعية من غذاء، وماء  وطاقة ، فتتلف البيئة أكثر، وتتعمق الفوارق بين الاغنياء والفقراء ،مما سيؤدي لعواقب اجتماعية، وبعدها لعواقب سياسية وأمنية ووجودية.

هذا أرحم سيناريو ممكن، لأنه لا قبل لذكائنا بتخيل المجهول بحذافيره، لا يمكن ضبط كل المتغيرات: هل سنستطيع البشرية يا ترى أن تواجه التحديات القادمة؟   و تتغلب عليها في الوقت الميت؟ ام انها ستسير نحو حتفها مفتوحة العينين مكبلة الإرادة، عظيمة الخيال قليلة الحيلة؟ .

ما بحوزتنا في هذه المواجهة الآن هو مجرد سيناريوهات تتراوح من النقيض الى النقيض ،هل تتوقف العولمة  مثلا ؟ أم تأخذ شكلا اخر؟  هل يتحارب أمريكا الصين ؟ ام ستتفقان؟ .هل ستختفي الدول ؟ وهل ستنصب حكومة عالمية ؟، هل يتخلص العالم من الرأسمالية المتوحشة، ام ينسحق اكثر بين انيابها ؟.هل يكتشف الانسان كواكب أخرى يسافر إليها  لأجل الحياة فيها ؟ هل …وهل وهل ؟؟.

هناك سيولة لامتناهية في السيناريوهات الممكنة، والسنوات الحالية حاسمة جدا في تحديد المنحى الذي سيأخذه مصير البشرية، ومع ذلك اظن ان العالم قد دخل منزلقا خطيرا لا يتحكم للأسف في منعرجاته

و إني إذ أتفهم توجسات الأمين العام الأممي الذي يشتكي هذه السيولة في المشهد الدولي، لا أستبين لماذا لا ينتبه إلى أن الأمم المتحدة هي عراب السيولة عالميا في الاقتصاد، وفي القيم ،وفي الحياة الاجتماعية للشعوب ،و حتى في فطرة الانسان . غوتيريس حذر، و بين اوجاع العالم، لكن شجاعته لم تذهب به لمساءلة نموذج الحياة الذي تروج له الأمم المتحدة نفسها، فالعالم أصبح أسير مفاهيم نحتتها له هذه المنظمة الذي تركته ألعوبة في يد النظام الرأسمالي المتوحش ،  اي ألعوبة في يد الغرب الذي  تمخض في النهاية  قاتلا بالتسلسل ،قتل الإله ، ثم الانسان ،وها هو يقتل الأرض .الأرض التي اتخذت زخرفها ،وازينت، لتزف غالبا الى نهايتها المكتوبة .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *