ولاية ثالثة لترامب!

د. خالد فتحي
في خطوة مثيرة للجدل، ألقى ترامب مبكرًا بحجر ثقيل في بركة السياسة الأمريكية، معلنًا عن إمكانية ترشحه لولاية ثالثة. البعض اعتبرها طرفة جديدة من الرجل، بينما يرى آخرون أن هذا ليس مستحيلًا، بل قد يكون جزءًا من استراتيجية محكمة لتحقيق حلمه في البقاء في البيت الأبيض بعد 2029. ففي آخر ظهور له مع قناة « بي بي سي »، أكد أنه لا يمزح، وأنه قد يحكم أمريكا مرة ثالثة استجابة لرغبة جماهيرية ستجعله يقرر أن ينحني لهذا الطلب.
ترامب ليس أول من يتطلع لفترة حكم طويلة في الولايات المتحدة، فهذه النزوة راودت قبله رؤساء سابقين. روزفلت، على سبيل المثال، قضى في الحكم أربع ولايات قبل أن يقضي ثمانين يومًا من نهاية ولايته الأخيرة. كما أن دوايت أيزنهاور أغوته العودة لمنصب الرئيس عبر بوابة نائب الرئيس، وعبر مرارًا عن حرقته لعدم تمكنه من بلوغ ذلك الهدف. كذلك طرح كل من رونالد ريغان وبيل كلينتون تساؤلات حول مبررات تقييد فترة الرئاسة بولايتين فقط، وخصوصًا عندما يكون الرئيس المغادر في أوج شعبيته وعطائه.
كانت هناك محاولات إذن للبقاء في الرئاسة لأكثر من ولايتين، وإن كانت غير ناجحة، إلا أنها تغري ترامب بأن مع ذلك بانه سيتمكن من تحقيق ما عجز عنه الآخرون وانه سيأتي بما لم يأت به الأوائل. فهناك طرق، حسب زعمه، يمكن سلكها في سبيل ذلك.
التعديل 22 من دستور الولايات المتحدة الذي ينص على أنه لا يمكن لأي رئيس أن ينتخب لأكثر من ولايتين، لم يتطرق لحالة ترامب الذي لم يُنتخب لولايتين متتابعتين، وبالتالي، قد يتطلع هذا الأخير إلى الاستفادة من تفسير لصالحه من طرف المحكمة العليا يمنحه إمكانية الترشح، خاصة إذا استمر في زيادة شعبيته، وقام بسحق خصومه الديمقراطيين، وحقق إنجازات استثنائية خلال هذه السنوات الأربع.
يمكن أيضًا لترامب أن يترشح كنائب للرئيس، ويعمد في موازاة ذلك إلى ترشيح دي فانس رئيسًا، ثم يدفع به للاستقالة لاحقًا، ويحل محله. فالتعديل 22 الذي لا يجيز لترامب الترشح أمام الناخبين للرئاسة، ظل صامتًا بخصوص صعود شخص ما للمنصب بطريقة أخرى غير الانتخابات. وهكذا، ففي حال استقالة دي فانس المبرمجة، يمكن لترامب تولي منصب الرئيس بدلاً منه دون أن يكون قد انتخب رئيسًا. إنها طريقة غير تقليدية، أشبه ما تكون بحيل الفقهاء في بعض فتاويهم. ولذلك، هي غير بعيدة الاحتمال.
ورغم ذلك، فهذا المسار ليس معبدًا تمامًا. هناك تحد قانوني آخر أمام ترامب. التعديل الـ 12 من الدستور الأمريكي ينص على أنه لا يحق لأي شخص غير مؤهل دستوريًا لمنصب الرئيس أن يكون نائبًا للرئيس، وترامب بهذا المنطوق غير مؤهل للرئاسة لأنه استهلك ولايتين رئاسيتين. إلا أن الدساتير لا تخلو من ثغرات. فقد يتحايل ترامب ويدفع بأن المقصود بذلك هو التوفر على شروط الترشح للرئاسة، وهي أن يكون عمر المرشح أكثر من 35 سنة، ويكون مولودًا بالولايات المتحدة، ومقيمًا بها لمدة 14 عامًا على الأقل، لا غير. وهي شروط يستوفيها بالكامل.
بهذا المعنى يظل هذا السيناريو ممكنًا جدًا: أن يصير ترامب رئيسًا للمرة الثالثة، ليس عن طريق الانتخابات، وإنما عبر خلافته للرئيس المنتخب. وهذا الأمر لا يشكل سابقة في التاريخ الأمريكي، فقد سلك هذه الطريق رؤساء أمريكيون سابقون شغروا المنصب، مثل جون تايلر، وأندرو جونسون، وثيودور روزفلت، وهاري ترومان، وليندون جونسون، وجيرالد فورد… وآخرين.
لا يبدو الأمر بهذا المنظور غير قابل للتحقق، وهذا ما يفسر صبر ترامب ونهجه في سياسة « الخطوة تلو الخطوة » لتيسير هضم الأمريكيين لطموحه هذا. بدأ الأمر أولاً كنوع من السخرية التي اعتُبرت حينها وكأنها محض نكاية واستفزاز لخصومه، ثم ها هي هذه السخرية تتحول ثانيًا إلى قول جاد: الرجل يرى أنه رئيس خارق لا مثيل له في تاريخ الولايات المتحدة، وأن شعبيته الكاسحة تمنحه الحق في أن يأتي بما لم يأتِ به الأوائل من الرؤساء.
لا شك أن نفسية ترامب وعشقه الجارف للسلطة هما ما يحركانه في هذا الاتجاه، وكذا إعجابه بعدد من الرؤساء الذين لازموا مناصبهم لأطول فترة ممكنة مثل الرئيسين بوتين وشي جين بينغ، ورؤساء آخرين لدول من العالم الثالث. وفي الحقيقة، ليس هناك ضير شخصي على ترامب أن يحاول كسب عهدة ثالثة، فهو يرى في فكرة الولاية الثالثة وسيلة لخلق زخم سياسي يعزز من موقفه بين أنصاره ويزيد من حدة التوتر في صفوف خصومه، فسواء تحقق حلمه أم لا، ففي النهاية، فهو سيربح الكثير بالتأكيد من خلال هذه المناورة، إذ ستكون وسيلة لفرض شروطه على المتذبذبين في ولائهم من الجمهوريين وورقة ضغط في المفاوضات مع خصومه السياسيين. ولربما هو يبني هذا الضغط ليس فقط على صعيد السياسة الداخلية، بل أيضًا في السياسة الدولية، حيث يعرف في قرارة نفسه أن أعداءه وحلفاءه على السواء يداهنونه يتسلحون تجاهه « بالصبر الاستراتيجي »، ترقبًا لانتهاء سنوات ولايته، وأنهم يتوجسون أكثر من ذلك من احتمال عودته مجددًا على المدى البعيد. ولذلك قرر أن يربكهم بهذه الأمنية المكينة لديه منذ بداية ولايته الثانية.
في رأيي، يبقى أهم هدف ينشده ترامب من كل هذا السجال هو كسب ورقة تفاوض استراتيجية يذخرها لنهاية ولايته ليقايض بها وعدًا بعدم ملاحقته ومضايقته جنائيًا لخروقات ارتكبها أو سيرتكبها لا محالة خلال هذه العهدة.
وأخيرًا، ورغم كل الاحتمالات القانونية والسياسية، يبقى هناك سيناريو آخر قد يخطر ببال ترامب: أن يكون الرئيس غير المباشر. وذلك أن يدفع أحد أفراد أسرته، مثل ابنه أو ابنته، أو حتى شخصًا مخلصًا له للترشح للرئاسة، ويضمن نجاحه، ثم يقعد في البيت الأبيض مستشارًا له في الظاهر رئيسًا لأمريكا وراء الستار كما يفعل في بعض الأنظمة السياسية التي تشبه نمط القيادة الرئاسية في بعض دول العالم الثالث. لكن هذا السيناريو يتطلب بدوره أن يحقق ترامب نجاحًا باهرًا في مهمته الرئاسية يضمن به عودة الجمهوريين، وإخلاص الرئيس الكومبارس ووفاءه له بالتواري إلى الخلف.
مع ترامب، يبدو أن كل الاحتمالات ممكنة. وما يراه البعض مجرد فكرة مستحيلة قد يتحول إلى واقع مدهش. لننتظر فقط ونرى كيف ستتوالى الأحداث، فقد تكون مفاجأة جديدة في الطريق.