الحياة اليومية بين الكرة والمدرسة

المختار عنقا الادريسي.
في زمن أصبحت فيه كرة القدم أكثر من مجرد لعبة، اتسعت معها رقعة الأسئلة المرتبطة بها، لدرجة الوصول إلى عمق التجربة الإنسانية. فبين تمرير وهدف، وبين فوز وخسارة تتحول كرة القدم الى مرآة عاكِسَةً وجود الحياة، ومستحضرة في دواخلنا أسئلة تتجاوز المستطيل الأخضر: هل نعيش كما نلعب؟
هل نستعد للحياة كما نستعد لها المباريات؟
ومن يتأمل تفاصيل مباراة كرة القدم ودقائق أمورها، سيدرك لامحالة أنها ليست لعبة تنافس رياضي، بل هي سردية مكتملة تحاكي التجارب البشرية في السعي والتعثر
والتعاون والانتصار والخذلان. فما أن تُطْلَق صافرة البداية، حتى يدب التشابك وتنجلي مهارات اللاعبين وأخطائهم ومعها تكتيك المدربين وضغط الجمهور … وهذه صور لمعارك ليست ببعيدة عن واقعنا اليومي، حيث الواحد منا يجد نفسه منغمسا في صراعاته اللامنتهية على أكثر من واجهة.
عن التشابه بين مباراة الكرة والحياة:
ففي كل مباراة تُخاض، يتم البحث عن فرص التسجيل أو صد الهجمة، وبين كل ذلك تقف المستديرة الصامتة، كرمز لتقلبات الحظ. ولعمري هكذا هي الحياة: نحاول أن نروضها، نوجهها، نحتفل بها، لكنها أحيانا قد تخذلنا بلا إنذار. فنتعلم منها – دون وعظ – أن الفرد مهما بلغ من المهارة والاتقان، لا يستطيع أن يفوز بمفرده. فالنجم يحتاج إلى تمريرة أو تمريرات يَتَصَيَّد بها الهدف، والمدافع يحتاج إلى مساندة ويقظة الحارس لتفادي الهدف، وبالتالي فتحقيق الهدف لن يكون إلا بمجهود جماعي وخطة قبلية. وفي المقابل فإن الأمر لا يختلف في الحياة، لأن النجاح لن يكون إلا نتيجة شبكة من العلاقات، التعاون، التفاهم، التسامح، التضحيات المشتركة.
ويبقى الدرس الأمثل في فن تقبل الخسارة هو الاستعداد المسبق للفشل المؤقت – إن حصل – والبدايات الجديدة والإيمان بأن الغد لازال يمتلك فرصا لم تستهلك بعد، وفي كل ذلك فإن ما يمثل الجمهور المشجع لكرة القدم في الحياة هو: الأسرة، العائلة، الرفقة، الزملاء، المجتمع، وحتى مواقع التواصل الاجتماعي. لكن المهم في النهاية ليس هو رضى الجميع، بل هو الصدق مع الذات، الخيارات، الأداء، القناعات.
المال الكروي والاستحقاقات المدرسية:
في زمنِ ضَخِّ الأموال الطائلة في لعبة كرة القدم – دوليا ووطنيا – من حقوق البث إلى الإعلانات وصفقات اللاعبين، يبرز سؤال أخلاقي وانساني ملح: هل بإمكاننا أن نحوِّل جزءا من الإمكانيات المالية الهائلة، نحو تجويد المنظومة التربوية عامة والمدرسية خاصة؟ وكيف يمكن أن يتم ذلك.
فكما تصنع الكرة نجوم الغد، فبإمكان المدرسة أن تسهم في إعداد وتنشئة المواطن الصالح المتصالح مع الفكرة القائمة على أن » الديمقراطية لا تختزل في الاقتراع، بل في المواقف اليومية، السلوكيات الصغيرة، احترام القوانين … »
وقد تلبسني الجرأة فأقول: ان استثمار نسبة ولو ضئيلة من عائدات كرة القدم في تطوير المدارس وتأهيل المدرسين وتزويدهم بالعتاد البيداغوجي وتعميم الأنشطة التربوية التكميلية – حتى لا أقول الموازية، لأنها تبقى مندمجة في الفعل التربوي – داخل الفضاءات المدرسية، كل ذلك قد يخلق تغييرات بنيوية ملحوظة في
وعي الأجيال. والمقصود هنا ليس قطع التمويل عن رياضة كرة القدم، وإنما خلق نوع من التشاركية التكاملية – بين الكرة والمدرسة – وتحقيق توازن يعيد للمدرسة توازنها ومكانتها باعتبارها الملعب الأول للتنشئة المُوَاطِنية. وإذا كانت الكرة اليوم قادرة على تحريك اقتصاد الدول وصناعة الرموز الاجتماعية وخلق الوظائف المهمة، فإن من العدل والواجب أن تفكر الدولة – من خلال الجهات الوصية – في تحويل جزء من ريعها الضخم لدعم قطاع التعليم الذي أضحى يعيش بين مطرقة التموين غير الكاف وسندان الاستنزاف وسوء التدبير. ولعل استثمار 5 أو 10 % فقط من العائدات السنوية للأندية الكبرى أو الدوريات القارية أو الكؤوس العالمية، في مبادرات تربوية تخدم المدرسة، يمكن أن يحدث فَرْقا نوعيا في بنية مختلف المؤسسات التربوية، مثل ترميم البنايات واعدادها وفق مختلف المتطلبات، تجهيز الفضاءات التعليمية التعلمية – المختبرات، الفصول، المكتبات – وتزيين المحيط، وتعميم الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية.
وبذلك يعاد دمج الرياضة في المنظومة التربوية، ليس كترف أو كنشاط ثانوي أو تزجية للوقت، بل باعتبارها رافعة للتكوين المتكامل للناشئة والمتعلمين على حد سواء ولنا خير مثال في بعض التجارب الدولية، – مثل مبادرة » Foot Boll For Scools » التابعة للفيفا – التي أثبتت أن الدمج الذكي بين الرياضة والتعليم يمكن أن يحقق تحولا في المجتمعات الهشة .وعلى هذا المستوى ولا يسعنا إلا أن ننوه بتجربة خلق أكاديميات تربوية موازية من طرف بعض النوادي الكروية، الأمر الذي مكَّن الصغار من متابعة مسرتهم التعلمية وفق خطط ومنهجيات محددة ، تجنبا لفشلهم أو التوقف المبكر لمسيرتهم . فلماذا لا تعمل الجهات المسؤولة وطنيا على اقتباس هذه الفكرة وتعميم نماذجها، حيث تعاني مدارسنا – عموما – من قلة الإمكانيات بينما ملاعبنا تستقبل النجوم والإشارات والدوريات والمقابلات الدولية وغيرها.
ويمكن ان نستند إلى بعض تقارير اليونسكو التي تشير إلى أن عدد الاطفال والشباب المغاربة غير الملتحقين بالمدارس يقدر ب 6 ملايين من عدد إجمالي عالمي يصل إلى أكثر من 250 مليون حول العالم، جميعهم لا يتلقون التعليم المناسب بسبب نقص التمويل وغياب البنيات التحتية وضعف التكوين التربوي عموما، وهو ما دفع بالمديرة العامة » أوندري أزولاي » إلى القول بأن [التعليم في حالة طواريء]. ويمكن أن نتلمس صدق دعوتنا أو اقتراحنا – الوارد ضمن هذا المتن – بالاستناد إلى التقرير الحادي عشر العالمي « لرصد التعليم للجميع » الصادر عن اليونسكو، والذي يشير إلى أن المغرب لم ينفق إلا 3 % من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم. وأن 5% من الأطفال يوجدون خارج فضاءات المدرسة وأعتقد أن أحسن نموذج يمكن أن يُحْتَدى هو » البرازيل » مهد الأساطير الكروية، فقد شهدت في العقود الأخيرة مبادرات رائدة لربط الكرة بالمدرسة، وهو ما يتجلى في:
* برنامج » الكرة إلى الأمام » الذي أسسه اللاعب السابق « جورجينيو » ويستهدف الأطفال في الأحياء الفقيرة، حيث يتم دمج التدريب الكروي بالتربية المدرسية والمرافقة النفسية والدعم البيداغوجي.
* اشتراط الأكاديميات الرياضية التي ترعاها أندية كبرى مثل » ساوباولو » و « فلومينينسي « ، متابعة التعليم المدرسي في مقابل البقاء في البرنامج التدريبي، مما ساعد على خلق وعي مزدوج لأن اللعب مسؤولية والتعلم ضرورة.
وقد أظهرت هذه البرامج أن الدمج الذكي بين الكرة والتعلم بإمكانه أن يرفع من معدلات التفوق المدرسي ويقلل من نسب الانحراف ويحد من الهدر والتسرب الدراسي خصوصا في المناطق الهشة، وما أكثرها في بلادنا. وعندما نقول بذلك، فإننا لا ندعو إلى إطفاء أنوار الملاعب أو خفض أجور اللاعبين أو باقي الأطقم الرياضية، لكننا ندعو إلى مقاربة عادلة في الاستثمار، فإذا كانت كرة القدم قادرة على تغيير حياة شاب مهاري، فإنها أقدر على تغيير مجتمع بأكمله إذا ارتبطت بالمدرسة والكِتَاب والكمبيوتر والذكاء الاصطناعي ومنظومة القيم عامة.
فإذا كان من حق الكرة أن تلمع، فإن من حق المدرسة أن تتجدد وتتنفس أجواء التطور المستمر، ولا يمكن لأي أمة أن تبني مستقبلها على » الأهداف الكروية » وحدها فكما نبدع ونصفق في الملعب، ينبغي أن نقوم بنفس الممارسة في المدرسة، وكما نٌكَوِّن وننتج نجوما في المستطيل الأخضر فبإمكاننا أن ننتج عقولا نيرة في المَخَابِر العلمية، وضمائر حية في قاعات الدرس الفلسفي والفكري ومبدعين في مدارج الآداب. وبالتالي فالرهان الحقيقي ليس أن نفوز في كل مباراة، بل أن نربح كل معركة إنسانية ضد الجهل، التخلف، عدم المسايرة والمواكبة للمستجدات. وبالتالي نحول دون الإبقاء على الحضور الجسدي المصحوب بالغياب الذهني عند ناشئتنا ، بتوفيرنا – من عائدات الكرة – لكل ما هو جدير بالإسهام في تحقيق كل ذلك ؟ وعندئذ ستكون كرة الحياة، مجرد شوط إضافي يفترض أن نلعبه بإصرار واستثمار وخطط تكتيكية وقيم لا تقهر أبدا.
وعطفا على ما تقدم نقول:
* إذا كانت الكرة تصنع نجوما فيمكن للمدرسة أن تصنع أُمَما.
* إذا كان المدرب قدوة فإن المُدَرس ملهم.
* إذا كان الجمهور عنصرا محوريا في كرة القدم فيمكن لنا أن نكون جمهورا مشجعا داخل الفضاءات التربوية، عبر تشجيع التلاميذ بعضهم لبعض وتخصيص أوقات للاحتفاء بالإنجازات الصفية وتكريم المتفوقين وتحويل لحظات التميز إلى طقوس جماعية – بمشاركة آباء وأولياء التلاميذ – تعزز الانتماء وتجعل المدرسة فضاء حيويا، من خلال اعتماد رُؤَى متعددة وبعيدة عن كل تبعية سلبية، ومواجهة كل أشكال الاحتواء المجاني.
وهكذا ستستفيد المدرسة من جدولة المشاريع باعتماد نظام تنافسي مرحلي مثل دورات المطالعة، مسابقات البحث والاكتشاف، تحديات القراءة والإبداع، بطولات الابتكار… » فالتلميذ الذي يحب «الليغا » – مثلا – سيتفاعل مع دوري القراءة وكأس العلوم، إن نحن أحسنا التسمية والإخراج – طبعا – وعندئذ سننجح في نقل بعض السلوكيات السوية لكرة القدم إلى الحياة المدرسية، ونصيب الهدف في إعادة السحر التنافسي إلى الأقسام، والشغف إلى التعلم والانتماء إلى المدرسة.
لأن الكرة ليست خصما للتعليم بقدر ماهي حليف استراتيجي له، شريطة أن نحسن استثمار ما تحمله من عادات جماعية محفزة وروح تنظيمية فعالة وقوة رمزية مؤثرة في المتعلمين. وعندئذ يمكن لمدرستنا أن تُحَوِّلَ عشق الكرة من مجرد هواية إلى عادة معرفية سلوكية، ترفع من جودة التعليم. خاصة وأن المدرسة اليوم تبقى في أمس الحاجة إلى نفس جديد يربطها بذهنية الجيل الحالي العاشق لكرة القدم، بما تحمله من رمزية، انفعالات، طقوس جماعية … تعتبر جميعها مدخلا ذكيا وفعالا لإعادة بناء العلاقة مع التلاميذ
وربح معركة التعلمات بنفس الروح التي نربح بها مباريات الدوريات المختلفة، القائمة على التخطيط القبلي المحكم، اللعب الجماعي، الإيمان بالقدرة على الفوز وتحويلها إلى رؤى وقيم ومسلكيات وسلوكيات تعلمية يومية.