حَــــوَلُ المفتشية العامة في مرآة الريادة

حَــــوَلُ المفتشية العامة في مرآة الريادة
شارك

عبد الرزاق بن شريج

مدخل عام

دأبتُ على متابعة الوثائق الرسمية الصادرة عن وزارة التربية الوطنية لما تمثله من مؤشرات على توجهات الإصلاح التربوي في بلادنا، خصوصاً في ظل منظومة تعليمية تعاني منذ سنوات من اختلالات بنيوية عميقة. وفي هذا السياق، تأتي هذه القراءة النقدية لتقرير المفتشية العامة للشؤون التربوية حول تنظيم التكوينات بمؤسسات الريادة (شتنبر 2025)، وهو تقرير يمتد على 98 صفحة، ويتناول ظروف تنظيم الدورات التكوينية لفائدة الأساتذة خلال الموسم الدراسي 2025-2026.

ركز التقرير على تتبع شروط تنظيم التكوينات ومدى انخراط المستفيدين وجودة التأطير، مع تقديم خلاصات واقتراحات عملية لتعزيز نجاعة التكوين وضمان أثره في الممارسة الصفية.

شملت العملية 92 مركزًا للتكوين و51 مؤسسة محتضنة للورشات على صعيد جميع الأكاديميات الجهوية، واعتمدت منهجية كمية وكيفية استندت إلى استمارات موجهة إلى المديرين والمفتشين المكونين والمنسقين والأساتذة المستفيدين.

وقد نُفذت العملية التذكيرية أيام 4 و5 شتنبر 2025، عبر أربع مراحل متكاملة: التحضير، التنسيق، الزيارات الميدانية، ثم إعداد التقرير النهائي.

منهجية القراءة النقدية

فرضت القراءة المتأنية للتقرير اعتماد مقاربة نقدية مركزة على الجوانب التقنية والتحريرية قبل الخوض في المؤشرات التربوية. فحجم التقرير (98 صفحة) يوحي بغزارة المعطيات، غير أن التقارير الجيدة تُقاس بجودة عرضها وتنظيمها أكثر مما تُقاس بعدد صفحاتها.

ولأجل ذلك، قُسمت هذه القراءة إلى ثلاثة محاور كبرى:

1- الجانب التقني والتحريري وتضخيم التقرير؛

2- التناقضات البنيوية في محتوى التقرير؛

3- أوجه القوة والضعف، مع اقتراح حلول عملية مستندة إلى دراسات وطنية ودولية.

وسيقتصر هذا الجزء على المحور الأول.

المحور الأول: الجانب التقني والتحريري وتضخيم التقرير

أولاً: أسباب تضخم التقرير

يُلاحظ من خلال تحليل بنية التقرير أن تضخمه لم يكن نتيجة لغنى المعطيات بقدر ما هو نتاج تكرار الأساليب والعبارات والمضامين. ومن أبرز المظاهر:

* التكرار اللفظي والمضموني في عرض الأفكار نفسها عبر مختلف الأسلاك التعليمية؛

* إعادة وصف المؤشرات والأرقام في أكثر من محور دون دمجها؛

* الإطالة في الشروح والتعاريف؛

* الإفراط في استعمال العبارات الرسمية المكرورة مثل “في إطار تنفيذ مقتضيات خارطة الطريق 2022-2026…”؛

* تكرار نفس الجداول والمبيانات دون تقديم تحليل نوعي جديد؛

* تخصيص عشر صفحات تقريبًا (من 5 إلى 15) لعرض السياق التنظيمي والمذكرات بدل الانتقال مباشرة إلى النتائج.

يخلص هذا التحليل إلى أن تضخم التقرير نابع من غياب الاقتصاد اللغوي والتكرار البنيوي أكثر من كونه نتيجة عمق في التحليل أو ثراء في المحتوى.

ثانياً: سبل اختصار التقرير دون الإخلال بالمضمون

يمكن اختصار التقرير بشكل مهني وفعّال عبر الإجراءات التالية:

* الانتقال من “التقرير الوصفي” إلى “التقرير التحليلي”، أي التركيز على ما تكشفه المعطيات من دلالات وأسباب بدل الاكتفاء بسرد ما تم القيام به.

* تجميع المحاور المكررة في تحليل أفقي واحد يبرز أوجه التشابه والاختلاف بين الأسلاك التعليمية، مع توحيد أقسام “الإكراهات” و“التوصيات”.

* الاقتصاد في الصياغة عبر استعمال جمل مكثفة واضحة.

* الاعتماد على الرسوم البيانية بدل الجداول الطويلة، بحيث يمكن اختزال عشر صفحات من الجداول في ثلاث صفحات من المبيانات التفاعلية.

* وضع البيانات الإحصائية في ملحق مستقل، والاكتفاء بالإشارة إليها في المتن الرئيسي.

ثالثاً: الشكل الأنسب لتقرير مختصر ومهني

يمكن أن يُعاد بناء التقرير في صيغة مهنية مختصرة كما يلي:

* المقدمة والسياق: لا تتجاوز ثلاث صفحات، تركز فقط على الارتباط بخارطة الطريق والمراسلات الرسمية؛

* منهجية الإنجاز والعينة: ثلاث صفحات تتضمن جدولًا ومبيانًا مختصرين؛

* النتائج حسب المحاور (اللوجستي، التنظيمي، البيداغوجي، الأثر): عشر صفحات تتضمن تحليلاً نوعيًا مقارنًا؛

* الاستنتاجات العامة: ثلاث صفحات تبرز الاتجاهات الكبرى؛

* التوصيات والإجراءات المقترحة: ثلاث صفحات موجهة وطنياً وجهوياً؛

* الملاحق الإحصائية: بين خمس وثماني صفحات تخصص للبيانات والجداول التفصيلية.

وبذلك يمكن حصر التقرير في 25 إلى 30 صفحة دون المساس بالمضمون الأساسي أو القيمة التحليلية.

رابعاً: المراجع المعتمدة

ينص الدليل المرجعي لإعداد التقارير التربوية بالمغرب (IGAP, 2019) على أن “التقرير الجيد هو الذي يوجز المعطيات ويقود القارئ مباشرة إلى الخلاصات والتوصيات القابلة للتنفيذ.”

كما تؤكد منظمة اليونسكو (UNESCO, 2021) أن الحجم الأمثل لتقرير وطني حول التكوينات أو التقييمات يجب ألا يتجاوز 30 إلى 40 صفحة، على أن توضع التفاصيل التقنية في الملاحق.

خاتمة المحور الأول

يمثل تقرير المفتشية العامة حول تنظيم التكوينات بمؤسسات الريادة مجهوداً مؤسسياً مهماً في تتبع تنزيل مشاريع الإصلاح، غير أن الإفراط في الوصف والتكرار يحدّ من فعاليته كأداة تقييمية.

إن تطوير آليات إعداد التقارير عبر اعتماد التحليل الموجز والتمثيل البصري للمعطيات كفيل بجعلها أكثر نجاعة واستثماراً في اتخاذ القرار التربوي. فالتقرير الفعّال هو الذي يُوجز دون إخلال، ويُحلل دون إطناب، ويُقنع دون إغراق في التفاصيل. أما الحجم الكبير للتقرير الحالي، فيجعل من الصعب تداوله واستثماره من قبل الفاعلين التربويين.

المحور الثاني: تقرير الريادة… بين الخطاب المطمئن والواقع المقلق

تقديم

عطفًا على ما سبق، سأتطرق في هذا المحور الثاني إلى التناقضات البنيوية في محتوى التقرير، معتمدًا أدوات التحليل العلمي ومنهجيته، بعيدًا عن أي خلفية شخصية أو ميدانية.

فـتقرير المفتشية العامة للشؤون التربوية (2025/2026) حول تتبع ومواكبة الدورات التكوينية لفائدة أساتذة مؤسسات الريادة، يقدم وثيقةً غنية بالمعطيات الكمية والكيفية، تسعى إلى تقييم نجاعة برامج التكوين وديناميتها.

غير أن القراءة التحليلية المتأنية لهذا التقرير تكشف تناقضات واضحة بين الأهداف المعلنة والنتائج الميدانية، وبين الخطاب الإيجابي في المقدمة والاستنتاجات، والملاحظات السلبية التي تسجلها فصول التقرير نفسها.

أولاً: تناقض بين المنهجية المعلنة وحدود العينة الملاحظة

يؤكد التقرير في القسم الأول (ص. 9) أن هدف العملية هو {تتبع ظروف وشروط تنظيم الدورات التكوينية ورصد مستوى انخراط المستفيدين وجودة التأطير المنجز}؛

لكن في الصفحة (15)، يقر التقرير بأن عملية التتبع {اقتُصرت على عينة من المراكز المعدة للتكوين دون غيرها… لتعذر إنجاز تتبع شامل على الصعيد الوطني}.

التحليل:

هذا الاعتراف يضعف صدقية النتائج العامة، إذ لا يمكن بناء خلاصات وطنية على عينة محدودة لا تمثل جميع الأكاديميات والمديريات. فالتناقض بين « الرصد الوطني » المعلن و »الاقتصار العيني » المنجز يعكس اختلالاً منهجياً في التصميم التقييمي.

ثانياً: تناقض بين الأهداف المعلنة ونتائج التنفيذ

يصر التقرير (ص. 9–10) على أن العملية تهدف إلى {تعزيز نجاعة التكوين وضمان استمرارية أثره في تطوير الممارسات التربوية}؛

لكن المعطيات الميدانية (ص. 65) تسجل أن {70% من المديريات عرفت خصاصاً كبيراً في التأطير، خصوصاً في المواد العلمية واللغات، مما أثر بشكل مباشر على جودة التأطير}.

التحليل:

يتجلى هنا تناقض بنيوي بين الرغبة في ضمان النجاعة والاستمرارية، وواقع العجز التأطيري الذي يقوّض فعالية أي تكوين. فالتقرير يعترف ضمنياً بأن الجهاز المؤطر نفسه غير مكتمل، مما يجعل الغاية المعلنة طموحاً تنظيمياً غير مسنود بإمكانات فعلية.

ثالثاً: تناقض بين الحديث عن الجاهزية والمعيقات الميدانية

يذكر التقرير في فصل المراكز المحتضنة للورشات (ص. 36) أن {أغلب المؤسسات توفرت فيها شروط مادية ولوجستية مناسبة وجاهزية الفضاءات لاستقبال التكوين}.

لكن في القسم المخصص للإكراهات (ص. 86) يعترف بوجود {ضعف في تهيئة فضاءات المؤسسات وتجهيزها ووسائلها التكنولوجية لإنجاز الورشات التذكيرية}.

التحليل:

يقع التقرير في مفارقة واضحة بين الإشادة في الفصول الوصفية الأولى والاعتراف بالتقصير في الفصول الختامية. هذه الازدواجية تعكس توتراً بين الخطاب الإداري المبرِّر والرصد الموضوعي الميداني، بين الرغبة في إظهار النجاح والاعتراف الجزئي بالفشل.

رابعاً: تناقض بين النتائج الكمية الإيجابية والتوصيات التصحيحية

في القسم البيداغوجي (ص. 52) يورد التقرير أن {الجوانب البيداغوجية ساهمت في توفير أرضية عملية لإغناء الممارسات الصفية بنسبة ملاءمة تجاوزت 75%}؛

غير أن التوصيات (ص. 79) تدعو إلى {توحيد نماذج تقارير التكوين وتطوير آليات التقييم القبلي والبعدي}.

التحليل:

هذا التباين بين الأرقام الإيجابية والدعوة إلى الإصلاح المنهجي يكشف أن النتائج لا تعكس أداءً فعلياً، بل تقدم إحصاءات شكلية تبريرية أكثر من كونها قياسات تربوية دقيقة.

خامساً: تناقض بين الخطاب الرسمي عن الجودة والاعتراف بالارتباك الزمني والتنظيمي

يستعرض التقرير (ص. 11) المراسلات الوزارية (1271/25 و1541/25 و1715/25) التي تحدد {معالم تنظيم التكوينات وطرائق تأطيرها وضبط شروط إنجازها}؛

لكن في الصفحات (50–65) يقر التقرير بوجود {تأخر في انطلاق التكوينات، واكتظاظ داخل المراكز، وتزامن التكوين مع الدخول المدرسي أو الامتحانات، مما حدّ من فعالية التأطير}.

التحليل:

هذا التناقض يبرز الفجوة بين التخطيط المركزي والتنفيذ الميداني، إذ لا تُترجم الضبطية الوزارية إلى ممارسات عملية ناجعة. فالزمن البيداغوجي يتعرض للخلل بسبب ضعف التنسيق بين الفاعلين.

خاتمة المحور الثاني

من خلال تحليل فصول التقرير يتضح أن الوثيقة تعكس نموذجاً تقويمياً هجينا يجمع بين اللغة التبريرية الرسمية والمعطيات النقدية الموضوعية، دون أن تنجح في التوفيق بينهما.

ففي الوقت الذي يسعى التقرير إلى تقديم صورة مؤسسية منسجمة حول {نجاح تجربة التكوين}، تكشف تفاصيله الداخلية عن واقع ميداني متعثر يتسم بضعف التأطير، واختلال التنظيم، وغياب التنسيق الزمني واللوجستي.

إن هذه التناقضات ليست مجرد تباينات لغوية، بل مؤشرات على غياب ثقافة التقويم المستقل داخل المنظومة، حيث تتحول التقارير من أدوات للمساءلة إلى أدوات لتبرير السياسات، لتنتقل المفتشية العامة من كونها جهازاً للتقويم الداخلي إلى مجرد مديرية تابعة للكتابة العامة لوزارة التربية الوطنية.

يقول المثل المغربي: «يدي ويد القابلة يخرج المولود أعور».

وهو ما يستدعي بشكل ملحّ فصل جهاز التفتيش والتقويم عن الجهاز الإداري، فلكل واحد دوره الجوهري:

فالأول يقوّم ويحلّل ويوجّه، والثاني ينظّم وينفّذ ويتابع التطبيق.

المحور الثالث: تكوينات الريادة… أرقام لامعة وأثر غائب

تقديم

يروم هذا المحور الثالث تقديم قراءة تركيبية علمية محايدة، تركز على أوجه القوة أولًا، (حتى لو كانت في الجانب التنظيري، والقانوني)، ثم أوجه القصور، استنادًا إلى معطيات التقرير ذاته، وصولًا إلى خلاصات وتوصيات عملية.

أولًا: أوجه القوة في التقرير

  1. وضوح الإطار المنهجي والتشريعي

يُحسب للتقرير أنه انطلق من مرجعية قانونية وتنظيمية دقيقة، استندت إلى المذكرات الوزارية المنظمة للتكوينات (25/1715 بتاريخ 28 غشت 2025، و25/1541 بتاريخ 14 يوليوز 2025)، محددًا نطاق العملية وأهدافها وأدواتها (ص.8–9).

كما اعتمدت المفتشية العامة مقاربة ميدانية منظمة، جمعت بين الاستمارات الكمية والمقابلات الكيفية مع الفاعلين (ص.13–14)، مما أضفى طابعًا منهجيًا على عملية التتبع.

هذه الصياغة الإجرائية تعكس نضجًا مؤسساتيًا في تدبير التقييم ورغبة في إرساء نمط موحد لمتابعة التكوينات على الصعيد الوطني.

  1. اتساع قاعدة الانخراط والمشاركة

أبرز التقرير انخراطًا واسعًا للأطر التربوية وهيئات التفتيش، حيث شملت العينة 92 مركزًا تكوينيًا و51 مؤسسة رائدة موزعة على جميع الأكاديميات الجهوية (ص.10).

كما ساهم في إنجاز العملية أكثر من 30 إطارًا من المفتشية العامة ومنسقي التفتيش الجهوي (ص.14).

ويُعتبر هذا الانخراط الواسع نقطة قوة تُبرز تعبئة مؤسساتية مهمة لإنجاح مشروع الريادة، وتجسد مبدأ « المواكبة الميدانية » الذي تنادي به خارطة الطريق 2022–2026.

  1. الانضباط التنظيمي وجودة التنسيق

سجل التقرير نسبًا مرتفعة في احترام الجدولة الزمنية للتكوينات، إذ بلغت «100% في انطلاق الورشات و96% في استيفاء الزمن المخصص لها» (ص.24).

كما بلغت نسبة التنسيق والتواصل بين الفاعلين 94% (ص.24)، وهو مؤشر إيجابي على انتظام العمل الإداري والتربوي.

ورغم بعض التجاوزات العددية، فإن انتظام البرمجة يدل على قدرة المنظومة على تنظيم عمليات تكوين وطنية في وقت قياسي.

  1. تحسن في التفاعل البيداغوجي

من الناحية البيداغوجية، سجل التقرير تحسنًا في تفاعل المستفيدين، إذ بلغت نسبة «التواصل والتفاعل بين المكونين والأساتذة» 81% (ص.28)، و«فعالية طرق التنشيط» 73%، و«المزاوجة بين النظري والتطبيقي» 75% (ص.28).

كما لاحظ التقرير ارتفاع مستوى الرضا لدى المفتشين حول «ملاءمة المضامين لحاجيات الأساتذة بنسبة 71%» (ص.26).

هذه الأرقام تعكس بداية تحول في الثقافة التكوينية نحو جعل الأستاذ فاعلًا وشريكًا في العملية، لا مجرد متلقٍ سلبي.

ثانيًا: أوجه القصور والاختلالات

  1. محدودية التغطية وضعف التمثيلية

رغم الطابع الوطني للعملية، يقر التقرير نفسه بأن التتبع «اقتصر على عينة من المراكز المعدة للتكوين دون إنجاز تتبع شامل على الصعيد الوطني» (ص.15).

ويضيف أن العملية واجهت «ضغطًا زمنيًا» وصعوبات ميدانية (ص.15)، ما يجعل النتائج جزئية وغير كافية لتعميم الأحكام.

هذا القصور المنهجي يفقد التقرير قوة التعميم العلمي ويجعل استنتاجاته أقرب إلى الانطباعات الميدانية منها إلى خلاصات وطنية مؤسسة على عينات ممثلة.

  1. طغيان الطابع الوصفي وضعف التحليل التفسيري

يتضح من فصول التقرير أن أغلب محتوياته اقتصرت على عرض نسب مئوية ومقارنات كمية دون تحليل دلالي أو تربوي لها.

فمثلًا، بعد عرض نسب الرضا المختلفة (ص.22–28)، لم يتضمن التقرير تفسيرًا لأسباب التفاوت بين الفئات أو تحليلًا للعوامل المؤثرة في جودة التكوين.

كما لم يستثمر معطياته في بناء مؤشرات أداء أو خلاصات تفسيرية، مما يجعل القارئ أمام توثيق رقمي بلا عمق معرفي.

  1. العجز اللوجستي وتفاوت الإمكانات الجهوية

أظهر التقرير تراجع نسب الرضا عن ظروف الإيواء والإطعام (51% و46%) (ص.23)، وتأخر تسليم العدة البيداغوجية للمكونين بنسبة 58% (ص.23).

كما رصد تفاوتًا بين المراكز الحضرية والقروية من حيث التجهيز والجاهزية، وهو ما يتناقض مع مبدأ تكافؤ الفرص.

هذه المعطيات تكشف أن غياب ميزانية وطنية مخصصة للتكوينات الميدانية يجعل جودة التجربة مرهونة بإمكانات الأكاديميات، ويعيد إنتاج الفوارق المجالية نفسها التي تسعى خارطة الطريق لتجاوزها.

  1. غياب قياس الأثر التكويني

أخطر ما يواجه التقرير هو اعترافه الضمني بغياب آليات لتقويم أثر التكوين على الممارسة الصفية. فقد حددت الأهداف في «رصد نسب الحضور والانخراط ومدى احترام البرمجة» دون أن تمتد إلى تتبع أثر التكوين على التعلمات (ص.9).

كما أن الجزء الخاص بالتوصيات (ص.78–80) لم يتضمن أي مقترح لإنشاء منظومة وطنية لقياس الأثر، واكتفى بالتنويه بجهود التنظيم.

هذا القصور يجعل التكوين يبدو كحدث إداري ظرفي، لا كمسار مهني مستدام يُفضي إلى تطوير الكفايات المهنية للأستاذ.

ثالثًا: خلاصة تركيبية وتوصيات عملية

يُمكن القول إن تقرير المفتشية العامة (شتنبر 2025) شكّل خطوة مؤسساتية متقدمة في تتبع ورش الريادة، لكنه ظل حبيس مقاربة وصفية لم ترقَ إلى مستوى التحليل التفسيري أو التقييم الأثري.

ولتحسين جودة التقويم التربوي والتكوين المستمر، يمكن اقتراح ما يلي:

* توسيع نطاق العينات وتوحيد أدوات التحليل لتغطية شاملة تمكّن من إصدار أحكام وطنية دقيقة؛

* اعتماد مقاربة تحليلية للأثر البيداغوجي تربط نتائج التكوين بالممارسات الصفية؛

* إحداث وحدة وطنية لتتبع أثر التكوين تابعة للمفتشية العامة بتعاون مع المجلس الأعلى للتربية، (خاصة أن المفتش العام الذي أشرف على إعداد هذا التقرير، تم تعيينه كاتبا عاما للمجلس الأعلى للتربية والتكوين)؛

* تمكين الأكاديميات من ميزانية جهوية خاصة بالتكوين لتقليص الفوارق اللوجستية والمجالية؛

* تحويل التكوين من حدث إلى مسار مهني مستدام، يرتبط بالتقويم والمصاحبة الميدانية، لا بالمواسم الإدارية؛

* الرفع من عدد المفتشين التربويين، ليقلص عدد الأساتذة لكل مفتش إلى أقل من 40 أستاذا وأستاذة.

خاتمة المحور الثالث

يبرز من خلال هذه القراءة أن تقرير المفتشية العامة حول تكوينات الريادة جسّد إرادة مؤسساتية واعدة في متابعة مشاريع الإصلاح، لكنه كشف في الآن ذاته عن قصور في المقاربة التحليلية والمنهجية.

فبيْن طموح بناء منظومة وطنية للتكوين وبيْن واقع محدودية الموارد والتحليل، تظل الحاجة ملحّة إلى استقلالية أكبر لجهاز التفتيش تمكنه من التحول إلى سلطة تقويم مهنية، لا مجرد أداة تبرير إداري.

إن مستقبل التكوين المهني للأساتذة لن يُبنى بالأرقام وحدها، بل بقدرة المؤسسة التربوية على تحويل المعطيات إلى قرارات وأثر في حجرة الدرس والمدرسة.

خـــــــلاصة عامة

يُبرز تقرير المفتشية العامة حول تنظيم التكوينات بمؤسسات الريادة جهداً مؤسساتياً مهماً في تتبع الإصلاح، غير أن طابعه الوصفي المفرط وتكراره يحدّان من قيمته التقييمية. فغياب التحليل الموجز والتمثيل البصري يجعل التقرير أقل نجاعة في دعم القرار التربوي. كما أن حجمه الكبير يصعّب تداوله واستثماره من طرف الفاعلين الميدانيين.

تعكس فصول التقرير نموذجاً تقويمياً هجينا يجمع بين الخطاب الرسمي التبريري والمعطيات النقدية الموضوعية، مما يخلق تناقضاً بين الصورة المعلنة عن “نجاح التكوين” والواقع الميداني المتسم بضعف التأطير والتنظيم والتنسيق. هذه المفارقة تكشف غياب ثقافة التقويم المستقل داخل المنظومة، وتحول المفتشية العامة من جهاز للمساءلة إلى أداة لتبرير السياسات.

ومن ثمّ، يبرز مطلب فصل جهاز التفتيش عن الجهاز الإداري لضمان استقلاليته المهنية ودوره التحليلي في التوجيه والتقويم، بعيداً عن منطق التنفيذ الإداري. إن تقرير الريادة، رغم إرادته الإصلاحية، كشف عن محدودية في المقاربة والمنهجية، مؤكداً أن مستقبل تكوين الأساتذة لن يتحقق بالأرقام وحدها، بل بترسيخ تقويم مستقل يحول المعطيات إلى قرارات تربوية مؤثرة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *