الجاليات المسلمة في الغرب.. الحاجة ملحة إلى فقه المواطنة والاغتراب..

الجاليات المسلمة في الغرب.. الحاجة ملحة إلى فقه المواطنة والاغتراب..
شارك

الصادق العثماني – البرازيل

تعيش الجاليات المسلمة في الغرب واقعاً مغايراً تماماً للسياقات التي صيغ فيها التراث الفقهي القديم، وتفرض طبيعةُ الحياة الحديثة في دول ذات نظم علمانية وطنية تحدّيات لم يعهدها الفقهاء الأقدمون، سواء في تعامل المسلم مع الدولة، أو القانون، أو المجتمع، أو المجال العام. ومن ثَمّ فإن استحضار الفقه القديم كما هو، وتنزيله على واقع متحوِّل ومركّب، لا يحقّق المقاصد الشرعية، ولا ينسجم مع قواعد الاجتهاد، بل قد يؤدي في كثير من الأحيان إلى تعطيل مصالح المسلمين أو الإضرار بوجودهم وشهادتهم الحضارية.

لقد بُني الفقه القديم على تصوّرات مخصوصة للدولة والمجتمع والعلاقات الدولية، كانت تقوم على الانتماء الديني، وعلى مفاهيم دار الإسلام ودار الحرب ودار العهد، وعلى الثنائية الصلبة بين « المؤمن » و »غير المؤمن ». أما اليوم فقد تغيّر العالم جذريًا؛ فقد اختلط الناس، وتعايش المسلم وغير المسلم في ظل دولة واحدة، وقانون واحد، ومواطنة واحدة، دون امتياز ديني أو قبلي، بل صارت الدولة الحديثة قائمة على حماية الحقوق بالتساوي، ورعاية الأمن العام، وتنظيم الحياة المدنية وفق مبادئ قانونية مشتركة لا يُسأل فيها المواطن عن دينه.

وتحوُّل العالم إلى قرية كونية واحدة، وظهور المنظمات الدولية والنظام العالمي القائم على المؤسسات القانونية المشتركة، فتح أبواباً واسعة للتواصل والاندماج والانفتاح، وخلق وضعاً جديداً لا تنفع معه القواعد الفقهية التي تأسست على عالمٍ منغلق، تتمايز فيه الديار والحدود بحروب وصدامات، وتختلف فيه أنظمة الحكم جذرياً. ومن هنا لم يعد تقسيم العالم إلى دار حرب ودار إسلام يعبّر عن حقيقة الواقع، ولا يصلح أساساً لتقديم الأحكام الشرعية للمسلم المعاصر الذي يعيش في دولةٍ تعامله كمواطن كامل الحقوق، وتضمن له حرية العبادة والعمل والمشاركة المدنية.. ولهذا تنزيل الفتاوى القديمة على واقع الجاليات المسلمة في الغرب يوقع في خلل كبير، ويصادم مقاصد الشريعة التي جاءت لحفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال، وهي مقاصد لا تتحقق إلا بالعيش في سلام، وحفظ نظام المجتمع، والالتزام بالقانون العام الذي يحفظ الأمن، ويضمن الحقوق، ويقيم العدل. وكل اجتهاد يؤدي إلى الصدام أو الإخلال بالسلم العام، أو يجعل المسلم في موضع الشبهة أو العزلة أو الخصومة الدائمة، هو اجتهاد غير معتبر شرعاً، لأنه يعطّل المقاصد بدل خدمتها.

ولذلك فإن الحاجة إلى فقه جديد للجاليات المسلمة في الغرب ليست ترفاً فكرياً ولا محاولة لتغريب الدين، بل هي واجب شرعي فرضته المتغيرات الكبرى في عالم اليوم. وقد قرر العلماء قاعدة:  » لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان  » وجعلوا مراعاة الواقع شرطاً في صحة الاجتهاد، واعتبروا أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإذا كان حفظ وجود المسلمين وهويتهم وحقوقهم لا يتحقق إلا بفقه يستوعب السياقات القانونية والسياسية والاجتماعية للدول الغربية، فإن هذا الفقه يصبح واجباً على أهل العلم والاجتهاد.

والفقه المطلوب ليس فقهَ تنازل أو تفريط، بل فقهُ ترجيحٍ وتقدير، ينظر في المآلات، ويراعي المقاصد، ويوازن بين الثوابت والمتغيرات، ويصوغ للمسلم منهجاً يعيش به دينه بطمأنينة، ويقوم بشهادته الحضارية على الناس، ويشارك في بناء مجتمع المواطنة دون انكفاء أو صدام. وهو فقه يحرّر المسلم من أسر التصنيفات التاريخية التي تجاوزها الواقع، ويعيد بناء العلاقة بين المسلم والدولة على أساس العقد المدني القائم اليوم، لا على أساس التقابلات الفقهية القديمة التي صيغت في سياق الحروب والصراعات.

وهكذا يصبح من واجب فقهاء المهجر وأهل العلم المقيمين في الغرب أن يجتهدوا وفق أصول الشريعة وكلياتها، وأن يقدموا للأقليات المسلمة فهماً يعالج مشكلاتهم الحقيقية: التعليم، المواطنة، الأسرة، العمل، المشاركة السياسية، الاندماج، التعامل مع القانون، والعيش المشترك. فهذه القضايا لا تكفي فيها فتاوى منقولة من كتب القرون الماضية، لأن تلك الفتاوى بُنيت على واقع غير واقعهم، وعلى أسئلة غير أسئلتهم، وعلى مؤسسات سياسية ومجتمعية لم يعد لها وجود اليوم.

إن تجديد الفقه للأقليات المسلمة ليس خروجاً عن الشريعة، بل هو امتثال لروحها ومقاصدها، وتفعيل لقابليتها الدائمة للتجدد. وهو ما يجعل المسلم قادراً على أن يعيش دينه دون حرج، ووطنه دون صدام، وعصره دون اغتراب. ومن دون هذا التجديد، سيبقى المسلمون في الغرب بين فقهٍ انتهت صلاحيته، وواقعٍ لا يرحم من لا يفهمه؛ أما مع التجديد فإن الشريعة تعود إلى وظيفتها الأصلية: هداية الإنسان إلى الخير، وتنظيم حياته بما يحقق مصالحه ويصون كرامته، في كل زمان ومكان.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *