أزمة ثقة بالذات

د. خالد فتحي
حين قال الشاعر لكل امرئ من دهره ما تعودا، لم يكن يقصد بهذا الشطر بالتأكيد جارتنا الشرقية، فهي ليست بالبلاد التي كان لها وجود في عصره، ولكننا نجد أن هذا البيت ينطبق على حالتها الآن انطباقا تاما.
فلقد تعود نظام العسكر فيها، أن يثير المشاكل حواليه وحتى بعيدا منه بآلاف الكيلمترات متنقلا من أزمة إلى أخرى، ومن جدل الى جدل أصخب منه، وهو ما أدى في النهاية إلى أن تصبح صورته لا تتراءى في مخيلة الدول إلا مقرونة بالأزمات والعقد، والتوترات، والصراعات، التي لا ينفك يشعله مع دول متعددة: عداءه المزمن للمغرب، مناكفته لإسبانيا، تحرشه بالحدود الليبية، قطيعته مع فرنسا، تلاسنه مع روسيا، ومناوشاته لمالي والنيجر، وبوركينا فاسو، …
وهو ما يعكس بحسب الملاحظين بلوغه ذروة أزمة مركبة، تشي باختناقه السياسي وتخبطه الدبلوماسي، وتيهه الهوياتي، بل ويكشف عن فقدانه البوصلة في زمن دقيق يتغير فيه وجه العالم.
آخر شطحاته، كانت مع دولة الإمارات بسبب تصريحات لمؤرخ جزائري، تم اعتبارها مؤامرة مبيتة بليل، ليشن الاعلام الجزائري الرسمي حملة شرسة ضد بلد عربي تم فيها الفجور في الرد وتجاوز حدود الأدب واللياقة.
الواضح، من كل هذه الوقائع المتكررة، أن الجارة الشرقية تتورط في عزلة قاتلة ليس على المستوى الإقليمي بل على المستويين القاري والدولي لدرجة انها صارت تعتبر مصدرا للمشاكل، وتقارن في عزلتها بحليفتها إيران بعد ان انتبه الى ان كلاهما يدعم ميليشيات، وكلاهما يزعم له خطابا ثوريا، وكلاهما يزور ازورارا عن الانخراط الجدي في الحلول.
في أزمته الأخيرة مع أبو ظبي، يتهمها قصر المرادية بالتخطيط لتفكيك الجزائر وتقسيمها.
يقول المثل العربي، شر البلية ما يضحك. اذ كيف للجزائر أن تشتكي من « مؤامرات خارجية »، وتلك جوهر دبلوماسيتها، وكيف ترفض أي محاولة « للمساس بوحدة أراضيها » ، دون أن تجد نفسها في حرج ملفت مادامت أبرز الداعمين لجبهة البوليساريو بغية فصل جنوب المغرب ان لم تكن الداعم الوحيد لها . هذا التناقض الصارخ في المواقف: رفض الانفصال في الداخل، ودعمه في الخارج ينزع ورقة التوت عن الجزائر في المحافل الدولية، وبجعل الجميع لا يأخذها بمأخذ الجدية.
الحقيقة أن أزمة المؤرخ محمد بلغيث، وقبله أزمة صلصال، لم تكونا إلا القشة التي كشفت هشاشة ملف الهوية في الجزائر… فالرجل ادلى برأي قد يتفق معه الجزائريون او لا يتفقون، وله مراجعه الرسمية الموثقة لهذا الرأي، ولذا لم تكن تصريحاته تستدعي أن يواجه لا هو ولا الإمارات بمثل هذه الحملة الشرسة ، التي وصلت حد الحديث عن اعتقاله وحد التشهير بالدولة التي استضافته قناة من قنواتها لا غير، مما يثير شكوكا وجيهة حول ما إذا كانت القضية تتعلق فعلاً بإساءته للأمازيغ، أم أنها تصفية لحسابات أعمق بين تيارات سياسية متصارعة داخل النظام.
كل هذه التوترات التي ما فتئ يبين عنها النظام الجزائري، تظهر انه يعاني اليوم، وفق العديد من المراقبين – من أزمة ثقة عميقة في الذات، ومن عُقدة مزمنة مرتبطة بالتاريخ. ففي زمن يشهد فيه العالم «عودة الإمبراطوريات » – التركية، الإيرانية، الروسية والامريكية، يشعر عسكر الجزائر أن هالة البلاد الذي يمسكون بتلابيبه لم تعد كافية لفرض هيبته إقليميا ودوليا، لانعدام سردية تاريخية موغلة في القدم، ويزداد سعارهم، كلما أدركوا أن هذه السردية لا يمكن العثور عليها الا في إطار مغرب كبير يوحدهم مع المملكة المغربية وموريتانيا وتونس وليبيا.
ان السلطة، في كثير من الأحيان، تستنجد بالتاريخ لتوظفه لبناء مشروع وطني متماسك، لكن في حالة الشعب الجزائري الشقيق اشتغلت هذه السلطة من الاستقلال عن فرنسا بمناكفة المغرب ومحاولة الافتئات على وحدته متناسية الحاجة الماسة لبناء هوية لبلد خرج لتوه من استعمارين متتاليين، تركي وفرنسي.
أمام هذا القصور، ونتيجة انعدام الرؤية المربع هذا، تم منذ 1961 توظيف خطاب المؤامرة ضد المغرب أولا، ثم تفاقم الوضع ليوجه الآن ضد الجميع، وليتحول إلى مانع ذاتي يمنع اي إصلاح سياسي حقيقي أو انفتاح على الداخل المتعدد.
ان الخطاب الجزائري الرسمي المبني على الارتياب في كل الجهات، لم يعد مقنعًا الان حتى لحلفائه التقليديين، بل صار مولدات لازمات إضافية لا يحتاج لها الشعب الجزائري.
بينما يُروج النظام لفكرة « الاستهداف » بسبب مواقفه المدعاة تجاه فلسطين ورفضه للتطبيع، تكشف المعطيات أن السبب الرئيسي لعزلته المتزايدة يكمن في دعمه الأعمى لجبهة البوليساريو.
الكل أصبح يعرف ان علاقات الجزائر الخارجية مرهونة بمدى تعاطف الدول مع الطرح المغربي في قضية الصحراء. كلما تعززت مغربية الصحراء دوليًا، وكلما التفت حولها دول العالم، كلما زادت هستيريا النظام الجزائري واستفحل ضيقه الإقليمي ولذلك لم يعد أحد يعطي اعتبارا للدبلوماسية الجزائرية التي حشرت نفسها في زاوية ضيقة جدا جعلت الكل يزهد في ودها.
اننا نرى ان الجزائر أمام لحظة فارقة. إما أن تراجع سلوكها الدبلوماسي وتحكم مقاربتها للهوية، وتتحرر من ازدواجية المواقف، وتنفتح على تنوعها الداخلي دون أن تراه تهديدًا، أو تستمر في قراءة المشهد الإقليمي قراءة خاطئة فتستمر في خسارة حلفائها الطبيعيين وفي مقدمتهم المغرب في وقت تُعاد فيه صياغة موازين القوى.
الصراع مع الإمارات ليس صراع نفوذ كما تريد ان تصوره الجزائر الرسمية، إنه مرآة تعكس أزمة داخلية جزائرية في قراءة الذات، وفي صياغة هوية قادرة على مواجهة الخارج دون أن تنقسم في الداخل.
عليها ان تستوعب انها تعاني أزمة تعريف لذاتها.
تدّعي السيادة ولكنها تخشى التدخل.
ترفض التقسيم وتغذيه في الجوار. تتحدث باسم فلسطين لكنها تحاصر شعبها كي لا يتظاهر من اجلها … وتقاوم الحل في الصحراء لأنها ببساطة لا تحتمل نجاح المغرب.
الجزائر الآن أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تخرج من عزلة صنعتها بيدها عبر انخراط واقعي في الحلول السياسية وعلى رأسها مبادرة الحكم الذاتي في الصحراء، أو أن تستمر في الهروب إلى الأمام، حتى تنتهي كدولة منبوذة لا تحظى سوى بتعاطف إيران وتونس المنهكة.
إنها ليست فقط أزمة نظام، بل أزمة كيان يعيد طرح سؤال الوجود والانتماء في زمنٍ تعود فيه الإمبراطوريات، ولا مكان فيه للكيانات المتأزمة.