التهاني الدينية في المجتمعات المختلطة.. مقاصدية في فقه العلاقات الإنسانية..
الصادق العثماني
في زمن تتشابك فيه الهويات، وتتداخل فيه الأديان والثقافات داخل الفضاء الواحد، لم تعد المجتمعات تُعرَّف على أساس الانتماء الديني الأحادي، بل أصبحت “مجتمعات مختلطة” بالمعنى الإنساني والحضاري؛ يعيش فيها المسلم إلى جانب غير المسلم في الحيّ نفسه، ويتقاسم معه المستشفى، والعمل، والدراسة، والمواطنة، والهمّ اليومي المشترك..
وفي هذا السياق المعقّد تبرز مسألة التهاني الدينية بوصفها سؤالًا فقهيًا وأخلاقيًا وحضاريًا في آن واحد: هل التهاني الدينية لغير المسلمين تتعارض مع العقيدة الإسلامية؟؟ أم أنها تدخل في دائرة البرّ والإحسان الذي جاءت به الشريعة؟ وهل الإصرار على التحريم المطلق يعكس وفاءً للدين أم قصورًا في فقه المقاصد وفهم الواقع؟
إن معالجة هذا السؤال لا يمكن أن تكون معالجة جزئية أو انتقائية، بل تحتاج إلى نظر كليّ يربط النص بروحه، والحكم بمقصده، والفتوى بمآلاتها. فالشريعة الإسلامية، كما قرر علماؤها، لم تُنزَّل لتكون عبئًا على الناس أو مصدر صدام دائم، بل جاءت لتحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودفع المفاسد عنهم، وترسيخ قيم العدل والتسامح والرحمة والحكمة..
ومن ثم فإن كل مسألة تتعلق بالعلاقات الإنسانية، وخاصة في سياق التعايش الديني، ينبغي أن تُقرأ في ضوء هذه الغايات الكبرى.
أول ما ينبغي تأكيده أن الإسلام يميز بوضوح بين “العقيدة” و“المعاملة”. فالعقيدة مجالها الإيمان والتصديق والولاء القلبي، وهي ثابتة لا تقبل المساومة ولا التنازل، أما المعاملة فمجالها السلوك الإنساني والأخلاقي والسياسة الشرعية، وهي أوسع أفقًا وأكثر مرونة، وتخضع لمقاصد العدل والبرّ والإحسان. هذا التمييز الجوهري هو الذي يضيع حين تُختزل التهاني الدينية في كونها إقرارًا بالعقيدة، مع أن الواقع اللغوي والاجتماعي والشرعي لا يسعف هذا الفهم..
فالتهنئة، في أصلها، فعل إنساني رمزي، يُقصد به إظهار اللطف وحسن النية، والمشاركة الوجدانية في الفرح، دون أن يتضمن بالضرورة تصديقًا لمضمون المناسبة أو تبنيًا لخلفيتها العقدية. وقد تعامل الفقه الإسلامي عبر تاريخه الطويل مع أفعال الناس وفق مقاصدها ومعانيها الغالبة، لا وفق توهمات بعيدة أو لوازم ذهنية لا يقصدها الفاعل ولا يفهمها المخاطَب. ومن القواعد الأصولية المقررة أن “الأحكام تُناط بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني”، وعند الانتقال من المستوى النظري إلى الواقع العملي، يتضح أن المجتمعات المختلطة تفرض نمطًا من العلاقات اليومية لا يمكن فصله إلى مربعات دينية صلبة. فالمسلم الذي يعيش في الغرب، أو في أي مجتمع تعددي، يتلقى التهنئة من جاره وزميله في العمل بمناسباته الدينية، ويتعامل معه في أدق تفاصيل الحياة، من العلاج إلى التعليم، ومن التعاقدات المالية إلى القوانين المدنية. فهل يُعقل أن يُحرَّم عليه ردّ التهنئة أو المبادرة بها، بينما تُباح له الإقامة الدائمة، وحمل الجنسية، والاستفادة من مؤسسات الدولة، بل وحتى المصاهرة والأكل من الطعام؟ إن هذا التناقض يكشف خللًا في ترتيب الأولويات، واختلالًا في فقه الموازنات.
لقد أباح القرآن الكريم للمسلمين الزواج من أهل الكتاب، وهو تشريع بالغ الدلالة في باب العلاقات الإنسانية؛ لأن الزواج ليس علاقة عابرة، بل رابطة دائمة تقوم على المودة والرحمة، وتنتج عنها أسرة مختلطة، وروابط نسب وصهر، ومساحات واسعة من التواصل العاطفي والاجتماعي. فلو كانت كل مظاهر المجاملة أو المشاركة الوجدانية تعد إقرارًا بالعقيدة، لما أُبيح هذا النوع من الارتباط من أساسه. وكذلك أباح الإسلام أكل طعام أهل الكتاب، وهو أمر يمسّ الهوية الدينية اليومية للمسلم، ولم يرَ فيه تهديدًا لعقيدته، بل اعتبره جزءًا من التيسير ورفع الحرج.
أما النصوص القرآنية، فقد وضعت إطارًا أخلاقيًا عامًا للتعامل مع غير المسلمين المسالمين، يقوم على البرّ والقسط. قال تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتُقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين”. والبرّ هنا، كما قرر أهل التفسير، هو الإحسان الزائد عن العدل، وهو نفس اللفظ الذي استُعمل في برّ الوالدين، بما يحمله من دلالات العطف واللطف وحسن المعاشرة. فكيف يُتصور أن يُطلب من المسلم البرّ والقسط، ثم يُمنع من أبسط تجليات ذلك في الواقع الاجتماعي، وهي الكلمة الطيبة والتهنئة اللطيفة؟
وتزداد هذه الرؤية وضوحًا عند التأمل في السيرة النبوية، التي تمثل التطبيق العملي لمقاصد الشريعة. فقد تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع غير المسلمين بوصفهم بشرًا قبل أي اعتبار آخر، فزار مرضاهم، وقام لجنازتهم، واستقبل وفودهم، وأمّنهم على أنفسهم وكنائسهم، وأذن لنصارى نجران أن يؤدوا صلاتهم في مسجده. ولم يُفهم أي من هذه المواقف على أنها تنازل عن العقيدة أو إقرار بما يخالف التوحيد، بل فُهمت على أنها قمّة في الأخلاق النبوية، وتجسيد لمعنى الرحمة التي بُعث بها.
إن الإشكال الحقيقي في الجدل المعاصر حول التهاني الدينية لا يكمن في وجود خلاف فقهي، فالخلاف سنة ماضية في الفقه الإسلامي، وإنما يكمن في تحويل هذا الخلاف إلى معركة هوية، وسلاح للتكفير والتخوين، ومؤشر على “الولاء والبراء”، في تجاهل تام لفقه المقاصد والمألات. فبعض الخطابات المتشددة لا تكتفي بالتحريم، بل تُكفر المخالف، وتتهمه في دينه، وتصور المسألة وكأنها حدّ فاصل بين الإيمان والكفر، مع أن كبار العلماء قرروا أن مسائل المعاملات والاجتهاد لا يُبدَّع فيها المخالف فضلًا عن تكفيره.
ومن منظور مقاصدي، فإن السؤال الأهم ليس: هل التهنئة جائزة أم محرمة فحسب؟ بل: ما أثر الخطاب المتشدد حول التهنئة على صورة الإسلام؟ وما مآلاته الدعوية والاجتماعية؟ لقد أثبت الواقع أن الخطاب المتطرف الذي يشيطن غير المسلمين، ويصور أي علاقة إنسانية معهم على أنها خيانة للعقيدة، يسهم في تشويه صورة الإسلام، ويغذي مشاعر الخوف والكراهية، ويغلق أبواب التعارف والحوار، بل ويضرّ بالجاليات المسلمة نفسها، التي تصبح معزولة ومشتبهًا فيها داخل مجتمعاتها.
في المقابل، فإن الفهم المقاصدي للتهاني الدينية يضعها في سياقها الطبيعي: بوصفها سلوكًا إنسانيًا يندرج تحت القاعدة القرآنية “وقولوا للناس حسنًا”، ويخدم مقاصد عليا مثل حفظ السلم الاجتماعي، وتعزيز الثقة المتبادلة، وفتح آفاق الدعوة بالحكمة والقدوة. فالكلمة الطيبة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، صدقة، وهي أحيانًا أبلغ أثرًا من الخطب والمواعظ.
ولا يعني هذا الطرح تمييع الحدود العقدية أو الدعوة إلى الذوبان الثقافي، كما قد يتوهم البعض، بل يعني ترسيخ التمييز الواعي بين الثابت والمتغير، وبين ما هو من صميم الإيمان وما هو من مقتضيات العيش المشترك.. فالمسلم قادر على أن يكون ثابتًا في عقيدته، منفتحًا في سلوكه، واثقًا في هويته، دون حاجة إلى الانغلاق أو العدوانية. بل إن قوة الهوية الدينية تقاس بقدرتها على التفاعل الإيجابي، لا بالانسحاب والخوف.
إن المجتمعات المختلطة ليست حالة استثنائية عابرة، بل هي واقع عالمي يتسع يومًا بعد يوم، ويحتاج إلى فقه جديد في أدواته لا في أصوله، فقه يُحسن تنزيل النصوص على الواقع، ويستحضر مقاصد الشريعة في كل اجتهاد، ويوازن بين حفظ الدين وحفظ صورة الدين..
وفي هذا الإطار، تصبح التهاني الدينية اختبارًا لمدى نضج الخطاب الإسلامي، وقدرته على الانتقال من فقه الصدام إلى فقه التعايش، ومن منطق التحريم المجرد إلى منطق الحكمة والمصلحة.
وخلاصة القول، إن التهاني الدينية في المجتمعات المختلطة ليست مسألة هامشية، بل هي مرآة تعكس فهمنا للإسلام نفسه: هل نراه رسالة رحمة وهداية للعالمين، أم منظومة خوف وانغلاق؟ والقراءة المقاصدية الرشيدة تقودنا إلى أن التهنئة، ما دامت في إطار المعاملة الحسنة، وخالية من الإقرار العقدي، هي من البرّ المشروع، ومن الأخلاق الإسلامية الرفيعة، ومن أدوات بناء جسور الثقة بين البشر. وبقدر ما ننجح في ترسيخ هذا الفهم المتوازن، نكون أوفى لروح الإسلام، وأصدق في تمثيل رسالته الحضارية في عالم متعدّد يحتاج إلى الحكمة أكثر مما يحتاج إلى الصراخ.
