« إعدام صامت » لجيل الوفاء: كيف تحول « الضمان الاجتماعي » إلى مقبرة لمن سهروا على علاج المغاربة؟
بقلم: عبد الكريم غيلان
في الوقت الذي تشرق فيه شمس « الدولة الاجتماعية » على ربوع المملكة، تحت قيادة حكيمة من صاحب الجلالة الملك محمد السادس، وفي غمرة ثورة اجتماعية تاريخية تروم تعميم التغطية الصحية كحقٍّ مقدس لا يقبل التجزئة، تبرز إلى السطح مفارقة « سريالية » تُدمي القلب وتستفز الضمير؛ فئة من المتقاعدين الذين نذروا زهرة أعمارهم لخدمة « الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي »، وسهروا عقوداً على تأمين علاج المغاربة، يجدون أنفسهم اليوم في « خريف العمر » عراةً أمام عواصف المرض، محرومين من ظلال المؤسسة التي شيدوا صرحها لبنةً لبنة.
هفوة الأمس.. ومقصلة « النظام الأساسي »
تعود فصول هذه المأساة إلى « هفوة » إدارية، قد تكون نتاج تقاعس اضطراري أو غير مقصود عن أداء واجبات الانخراط في « تعاضدية العمل الاجتماعي » لسنوات تلت التقاعد. وبدلاً من أن تكون هذه التعاضدية ملاذاً آمناً، تحوّلت نصوص نظامها الأساسي إلى « مقصلة » إدارية قضت بالتشطيب عليهم، وتركتهم بصدور عارية في مواجهة أمراض الشيخوخة ووهن العظام، بلا غطاء صحي يحمي كرامتهم.
إن التشبث بـ « الجفاء القانوني » ومنع إعادة الإدماج بدعوى انقطاع الانخراط، هو تغليبٌ مفرط للشكليات الإدارية الجافة على الجوهر الحقوقي الأصيل. فكيف يمكن لنص تنظيمي داخلي، وُضع أصلاً لخدمة المنخرط، أن يتحول إلى جدار عازل يحول بين المواطن وحقه الدستوري في الصحة؟ وكيف تسمو « مساطر » صماء على التوجيهات الملكية السامية التي جعلت من « الإدماج » لا « الإقصاء » بوصلةً للمرحلة؟
بين المرونة الغائبة والبيروقراطية المتعنتة
ورغم ما لمسناه من رغبة صادقة لدى الإدارة العامة لطي هذا الملف الإنساني، إلا أن « المشورة القانونية » لا تزال تقف حجر عثرة، تتخندق خلف تأويلات ضيقة تفتقر للروح الإنسانية. إن حرمان متقاعد أمضى حياته في خدمة « الحماية الاجتماعية » من ولوج نظام (AMO) هو بمثابة « إعدام صامت »، وضربة في الصميم لروح التضامن التي هي جوهر العمل التعاضدي.
بأي منطق قانوني، وبأي عرف أخلاقي، يُمنع من أفنى شبابه في سقي غرس الضمان الاجتماعي من الاحتماء بظله حين اشتد عليه هجير المرض والشيخوخة؟ إن التمسك بتبريرات شفهية تفتقر للتعليل الكتابي القانوني الرصين، يضع المؤسسة أمام مسؤولية تاريخية وأخلاقية لا تمحوها الأيام.
رسالة الإنصاف: الرواد ليسوا أرشيفاً!
إن هؤلاء المتقاعدين ليسوا مجرد أرقام في ملفات منسية، أو أوراقاً صفراء في رفوف الأرشيف؛ بل هم الذاكرة الحية لهذه المؤسسة، وهم الرعيل الأول الذي عبّد الطريق للأجيال الحالية. إن إنصافهم ليس « منّة » أو « صدقة »، بل هو تصحيح لوضع شاذ، وردُّ اعتبار لجيل قدم الكثير وينتظر القليل من الوفاء.
إننا ندعو الإدارة العامة لممارسة شجاعتها الأدبية والقانونية، والانتصار لـ « روح القانون » فوق حرفيته الجامدة. فالمحك الحقيقي لنجاح أي مؤسسة اجتماعية لا يكمن في توازنات ميزانيتها فحسب، بل في مدى وفائها لأبنائها وصون كرامتهم في لحظات ضعفهم.
خاتمة: صرخة قبل فوات الأوان
يبقى الأمل معقوداً على حكمة الإدارة العامة لكسر هذا الجمود البيروقراطي. إن الورش الملكي لتعميم الحماية الاجتماعية جاء ليُجبر الخواطر ويُصلح ما أفسدته المساطر. وإنصاف هذه الفئة هو الاختبار الحقيقي لمدى قدرة مؤسساتنا على استيعاب البعد الإنساني العميق للرؤية الملكية.
فهل من مجيب لصرخة هؤلاء المنسيين قبل أن يدركهم الوقت؟
