مدينة آسفي وباديتها تحت الاحتلال البرتغالي خلال القرن 16
علال بنور
استهل هذا الموضوع التاريخي حول مجال اسفي، بفكرة عميقة حول النسيج التاريخي للأستاذ عبد العروي، حيث يقول: » يحلو لبعض المؤرخين أن يوهموا القارئ أن كل ما يوجد في كتاباتهم وليد جهودهم الفردية وأن يسحبوا غطاء سميكا على هذه الحقيقة العامة، وهي أن كل واحد منا يستثمر بكيفية أو أخرى كد وجهد غيره فيليق بالمؤلف الأمني أن يحيل كلما أتاحت الفرصة على جميع من أفادوه أو سبقوه الى ميدان البحث والتأليف (في النهضة والتراكم 1986).
جاء الغزو البرتغالي لمدينة اسفي وأحوازها، في إطار المشروع الإمبريالي، فطبق سياسات متعددة الخطط عبر مرحلتين، في الأولى مارسوا فيها سياسة الانقلابات على القواد، وإعطاء الحكم لعملائهم، أما الثانية فتمثلت في سياسة الاحتلال العسكري، هكذا يكون الاستعمار العسكري والاستغلال التجاري لأسفي مقرونان، ويبدو ان هذا الاحتلال، يدخل في مشروع سياسي امبريالي نهجته الإمبراطورية البرتغالية.
أصبحت اسفي خلال القرنين 15 و16 من الثغور المغربية، التي أفادت بموقعها كمركز تجاربي للبرتغال، يروج العديد من السلع الاتية اليها من مدن الهند، كالصمغ والبخور والاثواب الحريرية، فكانت أهم صادرات اسفي القمح والاثواب الصوفية والخيول والشمع والجلود، كما كانت مركزا لجمع المعادن الثمينة. لذلك أشأ البرتغال وكالات تجارية.
يؤكد الحسن الوزان، أن احتلال اسفي كان سنة 1508 لأسباب داخلية، منها الصراع الداخلي بين القواد المغاربة حول السلطة، والصراع بين سكان المدينة وباديتها، غير أنه أغفل العوامل الخارجية، المتمثلة في الحركة الامبريالية البرتغالية، مع بروز الحركة الميركانتيلية والتنافس الاسباني البرتغالي، حول قيادة السواحل المغربية.
ساهم البرتغال في تصفية القواد لبعضهم البعض، حيت قام القائد يحيى اوتعفوفت بتصفية القائد عبد الرحمان، الذي اعتبره البرتغال عدوا وحاجزا امام احتلال اسفي، فاشتدت المقاومة بأسفي وباديتها، فطردوا القائد البرتغالي (ازنبوخا) بمعية القائد علي بن قاسم، فتراجع البرتغال الى مدينة لبريجة.
وفي سنة 1507 تصالح سكان اسفي مع ذواتهم، مصرين على طرد البرتغال عن مدينتهم، لكن القائد (ازنبوخا) ساهم من جديد في الصراع بين علي بن قاسم الخدوم للبرتغال والقائد يحيى بن تعفوفت، انتهى الصراع بالتدخل العسكري حيت بعث ملك البرتغال (مانويل) 1508 اسطولا بحريا، الى سواحل اسفي لتعزيز الوجود البرتغالي، فأعلن (ازنبوخا) الحرب على اسفي، فاستسلم المقاومون وسلمت مفاتيح المدينة، فتم الاحتلال 1508، فعين ملك البرتغال (ازنبوخا) حاكما عاما على اسفي.
فتجددت المقاومة التي قادها التحالف القبلي، من أزمور واولاد عمران واولاد يعقوب واولاد بوعزيز واولاد سبيطه والغربية، لمحاصرة البرتغال بأسفي، ومع قلة التجربة والتنظيم وتفاوة موازن القوى مع البرتغال، لكن القبال شوشت على المحتل.
كان يحيى اوتعفوفت يمثل خليفة لملك البرتغال ،يعزل ويقتل ويسجن من يشاء من المغاربة، ويجمع الأموال ويقود المعارك ضد المجاهدين .ففي 1516 استدعاه الملك( مانويل )لزيارة لشبونة ،فقلده رتبة عسكرية عالية ،عمل على محاربة فاس ونشر نفوذ البرتغال وارغم سكان دكالة ومراكش وحاحة على أداء الضرائب ،كان يحيى او تعفوفت متعطشا الى المجد وجمع الثروة ،لقد أعلن نفسه ملكا، يأمر السكان بتقبيل قدميه ويديه ،كان دعامة أساسية في غزو دكالة واحتلال اسفي وباديتها الى ان اغتيل 1518 ،ومع نهايته ،تقدم السعديون نحو اسفي غير انهم لم يدخلوها.
كان البرتغال ينظم هجمات انطلاقا من اسفي الى احوازها، بعملية سطو سريعة ومباغتة، يمارسون الأسر والنهب والقتل والحرق وسبي النساء، كانت السفن ترسو بأسفي وأزمور لنقل ما تم سبيه، فكانت عملية الخطف تشمل الأطفال والنساء الحسناوات ينقلن الى جزر الكناري ومدن البرتغال التي تستقبل تجارة البشر، بل خلقوا بأسفي سوقا للنخاسة، فكان المفضل في سوق تجارة البشر الحسناوات المتراوحة أعمارهن ما بين 10 و25 سنة.
لقد أضر البرتغال بالمدينة وباديتها، عن طريق الاستغلال والقهر والنهب المنظم، خصوصا في حق القبائل الثائرة، الشيء الذي أدى الى هجرة السكان من أراضيهم وديارهم، فنقل العديد من بقي منهم الى مدن البرتغال ومستعمراتها بأمريكا اللاتينية. وباستمرار المقاومة قرر الملك البرتغالي (خوان الثالث)، بأن يكتفي باحتلال مزكان، وفي سنة 1541 قرر البرتغال اخلاء اسفي بعد نهبها وحرقها، فحملوا أجراس كنيستهم.
ما هي أسباب إخلاء البرتغال لمدينة آسفي وباديتها؟
هناك العديد من العوامل، يجب الوقوف عند بعضها، منها وفاة مهندس الحركة الإمبريالية البرتغالية « مانويل » 1521. هو الذي كان وراء الرحلات الاستكشافية الكبرى، وراء احتلال الثغور المغربية، ثم هناك إقدام السعديين بقوتهم على حصار آسفي عام 1534م، فضربوا خيامهم بقرب من منبع مائي، يدعى عين الربيع، بدأ ضرب المدينة باستعمال المدفعية، أما البرتغاليين داخل المدينة، فقد استنجدوا بقواتهم من أزمور ولشبونة، حيث أبحرت سفن برتغالية نحو آسفي محملة بالمؤن والأسلحة والجيش، مما دفع بالسعديين الى الرحيل بعيدا عن المدينة.
انتبه الملك البرتغالي (خوان الثالث) ان تكلفة الوجود البرتغالي بعبدة ودكالة جد باهظة، خصوصا مع ظهور القوة الجهادية السعدية، لكن يصعب الجزم بالقول، أن هذه العوامل هي التي أضعفت القوة البرتغالية في آسفي، بل من الحكمة القول، أن هناك عوامل أخرى متعلقة بوضعية البرتغال.
كان ملك البرتغال « خوان الثالث » يفكر في التضحية بآسفي وأزمور، بمعنى التخلي عنهما، لا سيما عندما ظهرت قوات السعديين، اقترح ملك البرتغال على البابا في روما 1532 أخذ الموافقة على تدبير الكنائس والأديرة والكاتدرائيات بهذه الثغور، حتى لا تعرض حسب الملك إلى التدنيس من طرف المسلمين، لكن ما هي الدوافع الحقيقية للملك لاتخاذه هذا الموقف؟
لقد بعث الملك برسالة إلى كبار الكنيسة والجيش جاء فيها ما يلي: «إنني لا أطرح هذه القضية على بساط البحث إلا بدافع الضرورة وذلك لأن مواردي المالية هي على وشك النضوب، ومن الضروري إذن أن نعرف، هل يجب علينا أن نحافظ على هذه المدن أم لا؟ علما أنها تعاني من نقص في التموين، ومن المستبعد أن نستطيع أنجادها في الوقت المناسب، كما هو الواجب عند تعرضها للخطر … كما أنني لا أستطيع أن أتخلى عن هاتين المدينتين (آسفي وأزمور) دون أن يعتريني حزن عميق وألم مضن، وهو إحساس شاركني فيه أيضا النبلاء بمملكتي (جوزيف كوفلن: آسفي). انتهى كلام الملك، لكن لا بأس من طرح بعض التساؤلات:
لماذا هذا الموقف الانهزامي للملك؟ هل هذا الانسحاب من آسفي وأزمور كان بداية الانسحاب من غزو المغرب؟ هل كانت موارد آسفي وأزمور بالنسبة للبرتغال ذات أهمية أكثر من باقي الثغور المستعمرة؟
لكن هناك رأي آخر لا يقل أهمية، يفسر أسباب تخلي الملك عن آسفي وأزمور، يتمثل في الصعوبة المالية لترميم الميناءين، ثم صعوبة إعادة تكوين الجنود، بسبب ضعف الخزينة العمومية، ثم هناك رأي ثالث يقول: أن الأموال التي ستنفق على الثغرين كافية لحل الأزمة الاجتماعية التي أصبحت تعيشها لشبونة، حيث تفاقم ظاهرة الأرامل واليتامى والفقر والتسول، ليس بشوارع لشبونة فحسب، بل الأزمة شملت كل المدن البرتغالية.
وهكذا، ففي سنة 1541 تم الجلاء عن مدينة آسفي، فحملت السفن أهالي البرتغال والعتاد الحربي والأثاث الخاص بالمسؤولين وأجراس الكنائس والصور المقدسة، ثم أبحرت تحت قيادة الملك (خوان الثالث) بعد أن دمر التحصينات وأشعل النار بالمدينة (أرمان أنطونا : جهة عبدة 2003 ص 43).
لقد استمر احتلال آسفي لمدة 33 عاما، كانت هذه المدة كافية للتوسع البرتغالي نحو الداخل، وفي هذا الإطار ،نجد الكاتب (كاستني دافوس) ،يعتبر آسفي وباديتها ضمن الثغور الأخرى خزانا لمداخيل البرتغال ، كما أثار ( كربخال مرمول) أن سكان عبدة، كانوا يدفعون سنويا 500 حملا من الحبوب بالإضافة إلى العشرات من الخيول، أما (ميشوبلاير) فقد أكد أن سواحل آسفي، كانت ترسو بها سفن محملة بالقماش والمواد المصنعة، لتنقل بعد ذلك الحبوب والجلود والشمع والملح والأحجار الكريمة إلى خارج المغرب.