الآليات الدستورية لتثبيت المشاركة في صناعة القرار العمومي ..

الآليات الدستورية لتثبيت المشاركة في صناعة القرار العمومي ..
شارك

بقلم مراد أحتي : باحث في السياسات العمومية و العلاقات الدولية

   من المعلوم أن العملية الانتخابية تعتبر القناة الرئيسية لمشاركة المواطنين في صناعة القرار العمومي، وهندسة السياسات العمومية عبر مداخل لدمقرطة تمثيلية القرار العمومي ، فهي المدخل المباشر الذي من خلاله يختار الناخبون من بين المرشحين، من يمثلهم وينوب عنهم في تدبير الشأن العام الوطني والمحلي، انطلاقا من برامجهم الحزبية وتوجهاتهم الاستراتيجية حيال كل القضايا المجتمعية

      إن أهمية العملية الانتخابية، تكمن في شعور المواطن بمدى تأثير صوته الانتخابي في نتائج الاقتراع، فهذا الشعور يعد من ركائز النظم السياسية الديمقراطية، بيد أن الملاحظ هو كون المواطن يعتقد أنه بمجرد انتهاء الانتخابات،  وكأنه أعطى للمرشحين الناجحين تفويضا مطلقا للتصرف بكل حرية، دون أي فرصة أخرى للإدلاء برأيه أو تقديم اقتراحاته أو مشاريعه لهؤلاء المرشحين أثناء فترة تدبيرهم للشأن العام، ودون ضرورة انتظار مرور ولايتهم كاملة كي يعبر من جديد عن صوته.  فبعد صدور الوثيقة الدستورية لسنة 2011 أصبح هذا النمط من الديمقراطية متجاوزا، حيث برز أسلوب الديمقراطية التشاركية التي تبناها المشرع الدستوري عبر مجموعة من الآليات والميكانزمات، لاسيما في ظل التباعد بين الأحزاب السياسية والمواطن من جهة أولى، وضعف العمل والانخراط السياسي لفئات عريضة من المجتمع من جهة ثانية .

      لقد برزت مقاربة الديمقراطية التشاركية، في أدبيات وتقارير البنك العالمي الذي دعا منذ تسعينات القرن الماضي، إلى اعتماد أسس  » الإدارة التنموية الجيدة  » ، عبر تبني مطالب هيئات المجتمع المدني على المستوى المحلي، في إطار الديمقراطية التشاركية، باعتبارها تصورا اقتصاديا قائما على حرية المبادرة الفردية، وعلى مبادئ الشفافية والنزاهة  مقيم مستمدة من نظيمة الحكامة الجيدة، التي تكفل تحقيق أكبر قدر من المطالب المجتمعية على المستوى المحلي والجهوية عبر حسن تمثل درس اللاتركيز واللامركزية .

   وعلى هذا الأساس وبناء على قيمة الديمقراطية التشاركية المؤسسة على توسيع دائرة الدمقرطة، ونظرا لدورها في ترشيد تدبير الشأن العام وفي تجويد السياسات العمومية، فإن المشرع المغربي لم يفوت فرصة التنصيص عليها في دستور 011 ، حيث ورد مصطلح  » الديمقراطية التشاركية  » في الفصل الأول من الدستور الذي ينص بصريح العبارة على ما يلي؛  » يقوم النظام الدستوري للمملكة على أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية ،  وعلى مبادئ الحكامة الجيدة ، وربط المسؤولية بالمحاسبة … » .

       فما هي يا ترى الميكانزمات الدستورية التي خولها المشرع الدستوري والترابي  للمواطن وللمجتمع المدني من أجل تمكينهم من المشاركة الفعالة في صناعة القرار العمومي ورسم السياسات العمومية الوطنية والترابية؟

      نتيجة لتراجع تأثير الديمقراطية التمثيلية بسبب تزايد عيوبها وبروز الديمقراطية التشاركية كبديل فعال وناجع، جاء دستور2011 الذي ميز بين دور المجتمع المدني؛ كهيئات وجمعيات وفعاليات منظمة، ودور المواطن كفرد في المشاركة في صناعة الفعل العمومي. فقد تعززت مكانة المجتمع المدني في صناعة القرار العمومي وفي بلورة السياسات العمومية من خلال دستور 2011 ، حيث ينص مقتضى الفصل 12 منه على ما يلي.  » تُؤسس جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومة وتمارس أنشطتها بحرية، في نطاق احترام الدستور والقانون. »، فالملاحظ من خلال هذا الفصل، الذي جاء على شكل قاعدة قانونية آمرة بصيغة الإلزام أن المشرع الدستوري أظهر جليا أهمية المجتمع المدني كشريك في صناعة القرارات العمومية. وهو ما تم التأكيد عليه عبر الفقرة الثالثة من الفصل 12 من الوثيقة الدستورية، والتي جاء فيها ؛  » تساهم الجمعيات المهتمة بقضايا الشأن العام، والمنظمات غير الحكومية ، في إطار الديمقراطية التشاركية ، و في إعداد قرارات ومشاريع لدى المؤسسات المنتخبة والسلطات العمومية ، وكذا في تفعيلها وتقييمها، وعلى هذه المؤسسات والسلطات تنظيم هذه المشاركة ، طبق شروط وكيفيات يحددها القانون  » .

      كما ينص الفصل 13 من الدستور على أن السلطات العمومية تعمل على إحداث هيئات التشاور قصد إشراك مختلف الفاعلين الاجتماعيين ، في إعداد السياسات العمومية وتفعيلها وتنفيذها وتقييمها. أضف إلى ذلك آلية مهمة أتاحها المشرع للمجتمع المدني للتدخل في تدبير الشأن العام وهي آلية العرائض ، حيث ينص الفصل 139 من الدستور على ما يلي؛   » تضع مجالس الجهات ، و الجماعات الترابية الأخرى ، آليات تشاركية للحوار والتشاور ، لتيسير مساهمة المواطنين والجمعيات في إعداد برامج التنمية وتتبعها . يمكن للمواطنات و المواطنين والجمعيات تقديم عرائض ، الهدف منها مطالبة المجلس بإدراج نقطة تدخل في اختصاصه ضمن جدول أعماله . « 

      ويقصد بالعريضة حسب المادة الأولى من القانون التنظيمي رقم 44 .14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم العرائض إلى السلطات العمومية كل طلب مكتوب يتضمن مطالب أو مقترحات أو توصيات، يوجهه مواطنات ومواطنون مقيمون بالمغرب أو خارجه إلى السلطات العمومية المعنية ، قصد اتخاذ ما تراه مناسبا في شأنه من إجراءات في إطار أحكام الدستور والقانون وطبقا للقانون التنظيمي المتعلق بتقديم العرائض .

        أما بالنسبة للمواطن، فإلى جانب الدور المحوري الذي تلعبه جمعيات المجتمع المدني على مستوى المشاركة في صناعة القرار العمومي  وملاءمة السياسات العمومية مع محيطها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، يحظى المواطنات والمواطنون بدور رئيس في هذا المجال ، حيث ينص الفصل 14 من الوثيقة الدستورية لسنة 2011 على ما يلي؛  » للمواطنات والمواطنين ، ضمن شروط وكيفيات يحددها قانون تنظيمي ، الحق في تقديم ملتمسات في مجال التشريع . « ، ويقصد بالملتمس في مجال التشريع حسب القانون التنظيمي رقم 64 .14 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة الحق في تقديم الملتمسات في مجال التشريع كل مبادرة يتقدم بها مواطنات ومواطنون بهدف المساهمة في المبادرة التشريعية

       وفي السياق نفسه ، و تكريسا لحق المواطن في المشاركة في صناعة القرار العمومي ، ينص الفصل 15 من دستور المملكة على ما يلي؛  » للمواطنات والمواطنين الحق في تقديم عرائض إلى السلطات العمومية. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسة هذا الحق. « ؛ فالعريضة تعد آلية مباشرة وضعها المشرع الدستوري بيد المواطن العادي من أجل تقديم رأيه طلب مكتوب يتضمن مطالب أو مشاريع من أجل إدراجها من قبل الجهة المستلمة للعريضة في جدول أعمالها ، وعلى هذه الجهة في حال عدم قبول عريضة المواطنين المحترمة للشروط القانونية من حيث الشكل والموضوع أن تقدم التعليلات والتبرير طبقا للقانون رقم 03 . 01 بشأن إلزام الإدارات العمومية والجماعات المحلية و المؤسسات العمومية بتعليل قراراتها الإدارية ، وإذا لم يقتنع وكيل العريضة بهذه التعليلات جاز له الولوج إلى القضاء الإداري تحديدا قسم قضاء الإلغاء عبر الطعن فيها باعتبارها قرارا إداريا وفق المسطرة الجاري بها العمل .

      كما تجدر الإشارة إلى المقتضيات القانونية الواردة في الفصل 154 من الدستور تحديدا في الباب 12 المتعلق بالحكامة الجيدة ، حيث جاء فيها أن المرافق العمومية تتلقى ملاحظات مرتفقيها ، واقتراحاتهم وتظلماتهم، وتؤمن تتبعها ، فهذا الفصل الذي يعد قاعدة آمرة تتعلق بالنظام العام ، يبين إلزامية تلقي المرافق العمومية بمختلف أنواعها ومستوياتها للملاحظات التي يتقدم بها المواطنون/ المرتفقون، مع استقبال اقتراحاتهم، ناهيك عن تظلماتهم سواء الكتابية أو الشفهية لأن الفصل الدستوري جاء بصفة الجمع .

    وختاما أؤكد أن مشاركة المواطنين في صناعة القرار العمومي يجب أن يكون عبارة عن مسلسل مستدام من التدخلات والمساهمات المواطناتية والقانونية التي لا تنتهي بانتهاء الانتخابات، وذلك بهدف الحرص على تجويد المشهد السياسي وتتبع الأداء العمومي في المجال الإداري والمالي، بالإضافة إلى تقييمه تنزيلا لمقتضيات الوثيقة الدستورية لسنة 2011 ، حيث أولت هذه الأخيرة للمواطنين والمجتمع المدني مرتبة أساسية تجعلهم شركاء رئيسيون للدولة والجماعات الترابية في تدبير الشأن العام وفي إعداد السياسات العمومية الوطنية والترابية في مختلف مراحلها على مستوى تشخيص المشكل وبلورته في الأجندة السياسية وتنفيذه ثم تقييمه، ولكن بالرغم من أهمية النصوص القانونية فهي لا تكفي، فالأمر يقتضي وعيا سياسيا وثقافيا بهذه المدخلات والميكانزمات الدستورية التي خولها المشرع لعموم المواطنين ، حيث لا يجب الابتعاد عن الحياة العامة للدولة فور إغلاق مكاتب التصويت وانتهاء الانتخابات، وإلا فإنها ستبقى مجرد حبر على ورق إلى أجل غير مسمى. فاليوم الفاعل في صناعة القرار ليس هو الدولة بأجهزتها وجماعاتها الترابية فقط، وإنما المواطن أيضا والمجتمع المدني الذي خصص له المتن الدستوري عدة آليات قانونية لتوجيه الأداء العمومي نحو استيعاب عمق الحكامة الجيدة لصالح إحقاق الحقوق وحصر الانحرافات بما يضمن تقوية لبنات دولة العدل والإنصاف لصالح مجتمع الحق بالقانون .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *