مَن أباح حزبَ عزيز لعزيز؟

مَن أباح حزبَ عزيز لعزيز؟
شارك

عبد الرحيم الوالي

كان يوماً عادياً من أيامنا في حي الصفيح ابن امسيك بالدار البيضاء. وكنا مجموعة من اليافعين نمارس شقاوتنا اليومية هناك، بجانب الطريق السيار الذي كان يفصل بينه وبين براريكنا سورٌ شيدوه منعاً لعبور الراجلين. وبجانب السور كان هناك حيزٌ مكاني صغير كنا نستغله للعب الكرة، أو للعراك، أو لما سوى ذلك من مشاكساتنا.

كنت في الثالثة عشرة من العمر. ولم أكن أعبأ حينها بأحزاب ولا بسواها من أمور السياسة. فقد كانت الصلة بيني وبينها تنتهي عند الحصة اليومية التي تُفرض علي مساء كل يوم حين يعود والدي ويشغل الراديو، ثم يظل يتابع مختلف المحطات الإذاعية،  ويعلق على هذا الحدث أو ذاك. لكنْ، في ذلك اليوم البعيد، ونحن نلهو هناك كعادتنا، سمعنا أصوات صفارات في الطريق السيار، وتحركت بعض سيارات الشرطة، قبل أن يظهر موكبٌ جنائزي ضخم يشق طريقه في اتجاه مقبرة الشهداء.

كان واضحا أن الميت ذو شأن عظيم. وهو ما أثار الأسئلة لدى الجميع عمن يكون. وجاء الجواب من بعض أبناء الحي الذين كانوا يتابعون ما يجري بأنه عزيز بلال.

كانت تلك أول مرة يطرق فيها هذا الاسم سمعي. وعرفت في نفس اليوم أن الرجل مات في الولايات المتحدة الأمريكية وأن موته تحوم حوله الأسئلة. كما عرفت أنه كان واحدا من قادة حزب التقدم والاشتراكية، وحدثني والدي بعد ذلك عن « الحزب الشيوعي »، وعن علي يعته وعن…

والدي كان، بالطبع، إنسانا بسيطا لكنه كان مهتما بالشأن السياسي إلى حد كبير وكان يعرف تفاصيل الأحداث الكبرى التي عاشها. وعن طريق حكاياته عرفت الكثير عن الحزب الذي كان عزيز بلال أحد قادته مثلما عرفت أن الرجل كان رئيسا لجماعة عين الذئاب. ومرت الأيام والشهور والسنوات وصرت أعرف بدرجة كبيرة مَن يكون ذاك الذي مرت جنازته من هناك في ذلك اليوم. وبعد ما يقارب أربع سنوات من ذلك اليوم وجدت نفسي داخل الحزب.

لم يكن حزب التقدم والاشتراكية كبيرا عدديا. لكنه كان كبيرا بمناضلاته ومناضليه. وكان اسم عزيز بلال وحده كافيا لكي يعطي للحزب بعدا لا يُضاهى. وكنا ونحن نتبادل كتابات الرجل، وخاصة كتابه حول العوامل غير الاقتصادية في التنمية، نشعر بعظمة القامة الفكرية التي كنا أمامها. ثم كان لي شرف الالتقاء لفترة طويلة بواحد من الذين تتلمذوا على عزيز بلال، الرفيق الراحل عبد العزيز عزام، وعرفت منه الكثير عن خصال الرجل ومكانته المعرفية والسياسية.

اليوم، في مغرب 2021، وجدتُ نفسي أمام عزيز آخر هو السيد عزيز أخنوش الذي كنت مضطرا للتصويت لفائدة حزبه حتى أساهم في إزاحة الكابوس الظلامي الذي ظل جاثما على صدورنا طيلة عشر سنوات. ولم يكن بإمكاني أن أصوت لحزبي لأنه، بكل بساطة، لم يعد حزبي. لم يعد حزب العمال، ولا حزب الفلاحين الفقراء، ولا حزب المثقفين الثوريين. لم يعد حزب المظلومين والمحرومين والكادحين. لم يعد حزبنا نحن القادمين من أحضان الصفيح ومن باقي الهوامش. لم يعد حزب المناضلات الثوريات الماجدات اللائي يرفعن مطالب المرأة المغربية في وجه التخلف والظلام القروسطوي. لم يعد حزب عزيز بلال، ولا حزب عبد الله العياشي الذي قال لي يوما: « لقد ابتلعت كثيرا من الثعابين » في إشارة إلى تغاضيه عن بعض الانحرافات. لم يعد حزبُنا حزبَنَا. فقد صار حزب الأعيان والإقطاعيين والتافهين. صار حليفا للظلاميين في حربهم القذرة على كل قيم التنوير والحداثة والعقل. والذي قاده إلى ذلك رجلٌ اسمه محمد نبيل بنعبد الله، لم يكن له ذكرٌ في العالمين إلى أن جاء به الأمين العام الأسبق علي يعته، ذات يوم، مباشرة من باريس، لكي ينصبه على رأس شبيبة الحزب.

يزعم السيد نبيل بنعبد الله، بالطبع، لنفسه تاريخا نضاليا ويدعي أنه التحق بالحزب سنة 1979 عندما كان في باريس. لكن هذا الزعم لا يجد ما يعضده. ولا يكفي بمفرده لكي يجعل علي يعته يأتي به وينصبه تنصيبا على رأس شبيبة الحزب ذات سنة بئيسة من عقد الثمانينيات البئيس. وبالتالي فنحن نحتاج إلى كثير من الحفريات في ما كان يجري في عاصمة الأنوار كلما حل بها آنذاك الزعيمُ التاريخي للشيوعيين المغاربة. والذي يشجع على ذلك هو أن السيد نبيل بنعبد الله لم يعايش الحركة التلاميذية ولا الحركة الطلابية التي كانت بمثابة حاضنة سياسية حقيقية. فقد حصل على الباكالوريا في وضع مخملي بعيد تماما عن ساحات المواجهة، ثم طار إلى باريس ليدخل معهدا مغمورا لا يعرفه أحد، تستغرق الدراسة فيه سنتين فقط، ولا أحد يعرف القيمة العلمية للشهادة التي يسلمها. والدليل على ذلك أن السيد نبيل بنعبد الله نفسه لم يذكر يوما هذه الشهادة التي لم تؤهله لشيء سوى الالتحاق بمكتب والده الترجمان. وعليه، فهو لم يعش بتاتا مخاضات الحركة الطلابية حتى نقول إنه كان مناضلا في صفوفها وأن نضاله هو الذي أهله لكي يقترحه الأمين العام الأسبق، علي يعته، ليكون على رأس شبيبة الحزب. وبالنتيجة، يظل الدافع الذي حذا بعلي يعته إلى ذلك ملفوفا بكثير من الغموض.

وبقدر غموض الأسباب يأتي وضوح النتائج. وعلى رأسها الإهانة التي تلقاها أقدم حزب في اليسار المغربي خلال المشاورات الحالية لتشكيل الحكومة. فقد كان السيد أخنوش، رئيس الحكومة المعين، يستقبل الأحزاب بالترتيب حسب نتائجها الانتخابية. وفجأة قفز على حزب التقدم والاشتراكية، وتجاوزه تماما، واستقبل أحزابا كانت نتائجها في الانتخابات أقل، ولم يعد إلى حزب علي يعته إلا بعد يومين ومن باب الشكليات ليس إلا.

أي إهانة تلقاها حزب عزيز بلال من عزيز أخنوش!

لكن السيد نبيل بنعبد الله على ما يبدو يرفض أن يتعلم من حليفه السابق فضيلة الاستقالة على الأقل. ولو أنه نظر جيدا حوله لرأى كيف بادر السيد سعد الدين العثماني، وباقي أعضاء الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، إلى تقديم استقالتهم. لكن الرجل على ما يبدو لا يتقن حتى فن « النقل »، ويصر على التشبث بكرسي الأمانة العامة رغم أنه ملفوظ ومرفوض من طرف الجميع. لفظه الظلاميون الذين تمسح بأذيالهم سنوات، ولفظته المؤسسة الملكية التي تبرعت عليه بلقب « المضلل السياسي »، ولفظه الناخبون الذين ألقوا به في غيابات السقوط الانتخابي المُريع، ولم يعد يذكره إلا رواد مواقع التواصل الاجتماعي على سبيل الدعابة والطرفة. ومع ذلك فهو مصر على لفظ آخر أنفاسه فوق كرسي لم يعد يجلب له سوى الإهانة!

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *