هل كنت غبيا بحق؟

هل كنت غبيا بحق؟
شارك

لقد كان ذكيا، ذلك القدر؟ لم أكن أملك سلطة رده.

كنت منذ عهد خلا تلميذا صغيرا، حديث عهد بالمدرسة. أتعثر في سروال يكبرني ببضع سنوات، ونعلين باليين  أخراني عن الدرس مرات … و محفظة ضيقة بما تحتويه، خاطها في غير جهد فقيه الدوار … كان بالمحفظة كتاب القراءة ولوحة، وبضعة أقلام وخرقة قديمة، كانت فيما مضى جزء من بعض فساتين أمي، كنت أمسح بها اللوح .. عادة ما كنت أخرج من البيت، بعد ما احتسي شيئا من الحساء الساخن، وكوبا من القهوة –لألتقي في أصل الدوار بصبية زملاء، فأهتدي بهم في شق الطريق… كنا نتحادث، و نحن قاصدين المدرسة، في أشياء تناسبنا، وكم كنا شغوفين بجمع الكريات و اللهو بها – و أحيانا في وقت الدرس – كنا نحبها كثيرا، ولو أنها كانت تجني علينا ببعض الوكز الذي كنا نتلقاه في شبه رضى من المعلم … كانت المدرسة بناية بسيطة فصلين للدرس يتحولا أثناء استراحة الصباح مطعما مؤقتا… وفي أيام القر حينما تتوالى ليالي الشتاء يمسي الفصل بركا متدانية، حينها يتغير نظام المقاعد، فيتراءى للزائر خلقا آخر، و أثناء أيام الحر يضيق بنا الفصل حرارة، وكانت أصوات تمدد القصدير تلاطف مسامعنا الصغيرة ، فتعبث بها قليلا … ثم تفتر فنعود لنسمع خطابا كنا لا نفهمه كثيرا… كان يصدر عن معلم كنا نحبه أول الأمر، وكنا نتفانى في خدمته، إذ كنا نجتمع حوله في ضوضاء وصياح لنسمع منه أمرا،  فنعود إليه وفي أيماننا زمرة خبز أو قدور ماء، أو أشياء أخرى كنا نأخذها إليه اجتهادا و تقربا … كثيرا ما كنا نحزن حينما يودعنا كل مساء، و يمضي في خطى هادئة نحو بيته الذي لا يبعد عن الفصل إلا ببضعة أمتار… و كنا نحزن كثيرا حينما يودعنا أواخر كل دورة لما كان يحمل متاعه و يشق سبيله في اتجاه المدينة.. كانت تذهب معه الأحداث التي تفاعلت في نفوسنا الصغيرة … ربما لم يكن ذاك المعلم يدري كنه ما كنا نشعر به … و يعود ، عندما تنتهي الإجازة فتتهلل وجوهنا المغبرة وترفع في غير إرادة أيادينا الصغيرة لتأخذ في جلال البراءة يده لنقبلها … كان هو نفسه يستحسن منا الفعل و يدعو لنا، و يربت على نواصينا في شفقة و حنان…

و نختلف إلى الفصل من جديد … كنت أصعد درجات الباب في مشقة و جهد ، كانت قامتي صغيرة فعلا، كانت درجات الباب لا تختلف في ذاكرتي كثيرا عن الأعداد ثمانية و ثلاثة واثنان، إذ كنت  احرج دائما على الأمرين .

كان الفصل يحوي زمرتين منا، وفي قاعة الدرس كان يفصلنا حاجز وهمي كنا نحسه من خلال خط عريض يقسم السبورة نصفين، و كان النداء الذي يوجه إلينا من المعلم نفسه يحمل دلالة القسمة : أنتم اكتبوا و اقرأوا … و أنتم أنجزوا.. لاحظوا، وكانت هذه الكلمات و غيرها قد وقعت في أنفسنا من كثرة الترديد، فحفظت و مثلنا بها دور المعلم بيننا أياما طوالا … كنت اشتاق إلى أن أجلس على مقعد يجاورني لأسمع خطابا آخر و لكن كان ذلك هو الحلم الذي لم يتحقق… و لطالما وعدنيه المعلم جائزة … و لبثت في ذاك المقعد المشؤوم  ثلاثا، إلى  أن تخرجت من المدرسة بخروجي منها راع لنعاج أبى الذي كان يهددني بالرعي مرارا ، فضاع الأمل الذي كان يعقده علي كثير من الناس أولهم هذا المعلم الذي ما زلت أراه و قد تساوت قامتي بقامته النحيفة … لكنني أشعر دائما بأنني صغير أمامه، إذ حكمت على نفسي بألا أتعدى سن الصفع و اللطم.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *