التناص العابر من الذاكرة إلى قاع الجسد
أستسمحك أيها الأستاذ الجليل، وأنا أتلصص على متونك القيمة، مثل قراصنة الزمن القديم، لأقدمها لقراء المنظار، راودني الشيطان، لأعبث بالعنوان الذي كان في الأصل ( ن والقلم وما يسطرون) لأمارس عليه شغبا آخر، بالبحث عن عنوان يليق بك وبي.. أعذرني على زلة ورثها من الشعراء الصعاليك الذين قرأهم النقاد القدامى بكل ما يليق بالحقد الطبقي من تجليات. ف.ج
د. سعيد ألعنزي تاشفين
كان ذلك ألما قد تم نحته بكل عناية على جدار أوردتي، في بحبوحة القلب مذ كنت مستعدا للوداع على نسمات الذين أحبهم ، وتلك اللسعة القاسية التي توقظ المواجع بين حين وحين، أحملها بين ضلوع حروفي التي تشكل كل ما لدي من رصيد في هذا الزمن الذي طبع الفؤاد بالخيبات. أذكر كيف تحالفت السماء والأرض فتحقق النسف نسفا على أشلاء ما كان من كبرياء يمانع السقوط، لقد كان تحالفا بلا طعم كعاصفة الشتاء الباردة، مع سياط اللغط الغليظ، مع الماء الذي سكبته الدنيا على ظهري رهن إجباري على الاستحمام في حوض قدر متحملق بقلق يشدني إلى عتبات الطفولة، بمنزلنا الطيني الذي علمني كل شيء، كل شيء من صبر أيوب، وصمت نوح أمام الخيانة، وحكمة كونفوسيوس خلف الغوغاء، وأناقة بودا في سوق الوسخ العنيد، ويتم محمد الذي وجده يتيما فأوى، على مقربة من حكاية معلمي سقراط الذي انتظر كثيرا، ومليا متى يحل قدح سم ملؤه المؤامرة فاحتساه بشموخ ومات، وهو يتألم تحت سقف المدينة؛ ولسان حاله يقول: » يا مدن الناس، مدينتنا تبكي « ، ومات المعلم الأول تحت ضحكات المتلصصين من غوغاء الأكورا فاحتفى به التاريخ عريسا للعقل .
لقد علمني منزلنا الطيني، كيف أقرأ الملامح في الوجوه، وكيف أتصور أخلاق الرجال، وكيف أعشق أنوثة الوفاء في زمن التكالب على عمق القول، ويحضرني مرارا ألف غدر يجيء ليخمد شعلة الأمل عن بكرة أبيه بين تفاصيل النبض، بل يتجشؤني هذا الانفلات الطارئ من المرحمة وكأنني من المسغبة أتوسل رويدا رويدا رحمة من قلوب سكنها الجفاء. ينسكب الماء الدموي الدافئ بحرارة الأحشاء في جوف ألمي، فأستفيق على حين غرة على أمل اللقيا، وعلى صدري ألف ضربة موجعة أترجمها بكل اللغات، وأعيدها نحو سدرة المنتهى عند عزيز مقتدر، وأنا أصرخ وتصرخ معي كل الكلمات اللائي يشهدن بتاريخ الخيانات، ومن الكلمات ابتلاء؛ ومثل إبراهيم أتذكره وهو في جحيم النمرود يتآمرون والكلمة في قاموس النبوة ابتلاء فكان صامتا ينتظر بوح الله » أن يا نار كوني بردا وسلاما « ، فتحمل حرقا ألم به وكان من الصادقين » وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين « ؛ وما أخلاق النبوة سوى صمود في كنف الغدر، وصمت في حظوة الضجيج، وثبات على الحق مهما تربصت بالكلمات الدوائر .
تنتبه الأواصر ويجثو الدم البارد غير آبه بما يحل بالقلب من وجع، و قرفصاء الدجى الآخر الذي يأتي من أكمام النشيد يغتال تلصص الظلام فيتلو على القلب دعاء » أن ربي أنزلني منزلة مباركة وأنت خير المنزلين « ، وتفل الأغنيات والمواويل، ودرويش العظيم يزفني على صهوة القول » لا شيء يعجبني، لا الراديو ولا صحف المساء، أريد أن أبكي » ، وحلمي بضياء ينبت من ألم التجلي على سجايا الروح المكلومة، و كل حلم يصبح مؤجلا في حضرة انسكاب السخط على ظهري على جنبات الظنون، وكفى بالحرف مؤنسا وحشة الدمار، وما يزال يستدعي شذرة من إخفاقاتي أنا الذي استبد به الصقيع قبل ألف حزن وحزن، وغواية الضجر اللعين حممته بماء بارد وبلا نكهة الودق الوديع من ضفة الأحجيات، وأركض بحرفي هذا مغتسل خائن وشراب، وأنا الذي قتل ألف حلم ردحا من زمن المكر ذات خريف قبيل الشتاء عندما خامرته أماديح الأنصار إبان القتل الكبير، وأنا الذي علمته الأوحال لعبة الخيانات العظيمات، ولقنه البيت الطيني كيف يصمد في عز الخيبات فينبلج فينيقا من رماد الخراب. فعذرا يا هذا القلب إذ أعجز عن تعداد ألف موعد في خاصرة النبوات المهيضات، والحزن ينسكب على خواطري أرقا في حضن الليل يتوسل سدرة المنتهى عند عزيز مقتدر، وعثرات الوقت الرحيم، ويجلدني الصحو وما بقي مني لم يفلح في سرد الشذرة على أمل الهروب نحو ثخوم الروح بعيدا عن ضجيج المآل .
فيا قدحي من أتاي هلا أرجعت لي أنشودة الحب القديم، وذلك الجمال أنالني السراء حانت بعد ضيق ريقا للصبح إذا تنفس على أرصفة الجياع، ووسادة المكلومين تضرعا للذي خلق فسوى فعدل فهدى .
الدم الثلجي ينسكب بكل تؤدة بسخاء يعمر زوايا العمر أنينا يؤرخ بحبر السؤال في اللوح المحفوظ ما حل بالقلب من طعنات، وأهرب من الحلم المخصي إلى دجنة الصمت، ولعن الله كلام الكلام وبوح البوح ولعن القول في حضرة الذل، ذات ضحى وذات الأمسيات الكئيبات بلا نجوى، والقلق من اختصاص الوطن، وتقمصني حزني في بلاد الغرباء المنفيين حتى من ذواتهم، ويفضحني حزني من سقف عورة شذراتي، وأنا طريد الأحلام المخصية الحائرة، والليل يعسعس هامسا ويمنحني الهزيمة مرة أخرى في هيئة الخصي الأعور من أهلك حرث النبض ونسلها شذرات في سياق الخواء اللعين، والدم الصقيع على ظهر القلب ينسكب وصرخة كونية وجودية تحدث عن هلع في باحة الروح و التراب الذي يحتويني بمنزلنا ينهال علي و تمتشقه حشرجة ملعونة رهن انسكاب الحزن مجددا و يعجز أن يقول » ن والقلم وما يسطرون « ؛ كان فوقهم وفوق القلب قلم يسجل كل الآهات والأنين بحبر الله بثنايا اللوح المحفوظ في انتظار يوم آت يبوح فيه الله على شرف الأمهات والنبضات والكلمات والقلق والحزن ؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
» خذ كتابك كفى بنفسك عليك اليوم شهيدا » ..