التافهون الجدد والحرب المعلنة على حرمة العقل النقدي

التافهون الجدد والحرب المعلنة على حرمة العقل النقدي
شارك

المنظار: يوجه الدكتور سعيد ألعنزي تاشفين في هذه الإطلالة دعوة صريحة لمثقفي عصره لقراءة كتاب  » نظام التفاهة  » ويرى في ذلك  ضرورة ملحة ترقى إلى فرض عين ويؤكد على كل مثقف حر  مستقل الاطلاع على هذا المتن الفريد جدا للفيلسوف الكندي ألان دونو عنوانه: Médiocratie  بمعنى نظام التفاهة.

الدكتور سعيد ألعنزي تاشفين

     من إنجازات الأيام الأخيرة في ظل النظام العالمي الجدي ، صدور متن عميق جدا يفكك خبايا الحاصل من تراجعات في كنف العولمة المهيمنة لصالح رأسمالية الكازينو للفيلسوف الكندي ألان دونو عنوانه : « Mediocratie »، أو نظام التفاهة. كتاب ارتحل نحو كل أصقاع العالم محمولاً بأقلام الغرب ونُقاده ومُحمّلا بنقد لاذع للردة القيمية الحاصلة على عالميا، ضمن  سؤال مركزي بحثاً عن الأسباب التي جعلت التافهين يمسكون بمواقع القرار في العالم  سياسيا، واقتصادياً، وأكثر من هذا وذاك قيميا. ولقد كان فعلا دونو ناجحا جدا في إماطة الحجاب عن الانحراف الأكبر الحاصل في عالم التفاهة .

    يؤكد ابن  » كيبيك  » أن التافهين قد حسموا المعركة بقوة من دون اجتياح الباستيل ( إشارة إلى الثورة الفرنسية)، ولا حريق الرايخشتاغ (إشارة إلى صعود أدولف هتلر في ألمانيا )، ومن دون رصاصة واحدة من معركة « الفجر » ( إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا وبراكمار )؛ إذ ربح التافهون الحرب بسهولة من خلال تعطيل العقد النقدي، وسيطروا على عالمنا، وباتوا يحكمونه بأبخس الأساليب ويسلعنون العبيد الجدد باسم الحريات والموضة والتأقلم .

   يعطي أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية نصيحة فجّة لناس هذا العصر :

      » لا لِزوم هذه الكتب المعقدة، ولا تكن فخوراً ولا روحانياً، فهذا يُظهرك متكبراً، ولا تقدم أي فكرة جيدة، فستكون عُرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة وكن كذلك.عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن، فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة  » !

   لعمري لقد قال دونو كل شيء عندما أكد أن التفاهة نجحت في تعليب الإنسان وتسليعه وتسفيه لصالح أجندات الربح والهوس الرأسمالي و كأننا أمام الإنسان ذي البعد الواحد بلغة هربرت ماركوز. وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين في السوسيولوجيا والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي.

    + السبب الأول يعزوه  » دونو  » إلى تطور مفهوم العمل في المجتمعات. يقول إن « المهنة » صارت « وظيفة »، وصار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير، إذ يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه، أو تبيع كتباً و مجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً .

   لقد انحدر مفهوم العمل إلى « المتوسط »، وصار أشخاصه «متوسطين » وضعيفي الذكاء، بالمعنى السلبي لكلمة الذكاء، لقد صار العمل مجرد أنماط؛ شيء ما من رؤيوية شارلي شابلن في « الأزمنة الحديثة »، أو فريتز لانغ في رائعة « متروبوليس »، بما يؤكد سيطرة معنى اللامعنى الذي أشار إليه مارثن هايدغر بصيغة ما .

    + السبب الثاني مرتبط وفق  » دونو  » بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام . إذ هنا بدأت سيطرة التافهين يقول، أو وُلدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول إنه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم، فاستبدلوا السياسة بمفهوم « الحوكمة » والحكامة الجيدة، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم « المقبولية المجتمعية »، والمواطن بمقولة « الشريك ». في النهاية صار الشأن العام تقنية و« إدارة » ، ولا مكان لمنظومة القيم والمُثل والمبادئ والمفاهيم العليا.  وصارت الدولة مجرد شركة خاصة والشعب مجرد زبون، والأسرة مقاولة. و صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد، وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته » .

من هذين المنطلقين، حصل تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتحقّق تفريغ السياسة والشأن العام من كل المضامين القيمية ، وصارت التفاهة نظاماً كاملاً نسقيا على مستوى العالم، بل صارت قاعدة للنجاح شرط أن «تلعب اللعبة » وتُتقنها، وتنخرط بإيجابية في شروطها حتى تضمن الرقي و الترقية والتموقع في سُلم النجاح بمعيار التافهين. حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة نقصد اللعبة والتفاهة.

    لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية، بل هي مجرد « لعبة » رخيصة يلعبها أناس رخيصون؛ حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم التفاهة: « أن تلعب اللعبة » هكذا. وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نصّ لها ، لكن يعرفها الجميع بمنطق ما على شاكلة انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغذاءات والانتقامات، وبعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بُنيوي قاطع، لدرجة أنه ينسى علّة وجوده ومبادئ تأسيسه، وينسى لماذا كان أصلاً ولأية أهداف.

    إن أفضل تجسيد لنظام التفاهة، يقول دونو، صورة « الخبير » الذي يعتبره أول انحراف خطير ضد العلم، حيث يختبئ كل الانتهازيين خلف صفة خبير في السياسة، بما يسيء للعلم وبمنطق النقد المعرفي المؤسّس على هدم الأصنام و تكسير السياجات . إن الخبير يؤكد دونو هو ممثل «السلطة » المتحالف معها، والسلبي المتملق المعادي للعلم النقدي، المستعد لبيع عقله لها خدمة للربح وفق شروط  » اللعبة « ،  في مقابل وعلى نقيظ « المثقف » الذي يحمل الالتزام معه تجاه قيم النبل والوقار لصالح المجتمع على قاعدة الانتصار للنقد ومُحجاجة السلطة والوقوف بالمرصاد لتغول الرأسمال ولتعسف السلطة معا. وما جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، سوى مصنعاً للخبراء المعلّبين، لا مدرسة للمثقفين المتحررين،  حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة؛ « إن على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات ». هنا يتأكد أنه لا مكان للعقل النقدي ولا لحسه، أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، مِن أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوافر من عقول مشاهديه المستهلكين. لقد صار كل شيء يباع كخبرة بما في ذلك الجسد، والأهم أن الإنسان صار عبدا عاريا من أية قيم من أجل الاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات « السوق ».

     هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام مُمنهح لحكم التافهين وسيطرتهم . نظام يضع ثمانين في المئة من أنظمة الأرض البيئية عُرضة لأخطار نظام استهلاكهم، ويسمح لخمسين في المئة من خيرات كوكبنا بأن تكون حِكراً على واحد في المئة من أثريائه ضمن رأسمالية الكازينو، وكل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان، وخلق عينة من خبراء السياسة الذي يبيعون شرف المواطنين بأبخس الأثمان في سوق اللعبة باسم خبراء .

    ترى كيف يمكن مواجهة حكم التافهين هذا ؟

    يجيب آلان دونو : ما من وصفة سحرية، لأن الحرب على الإرهاب (والجائحة قياسا ) أدت خدمة جليلة لنظام التافهين، حيث جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات ضغط، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية تسمح لهم بالتوغل، بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها عبر حرب عقلانية ضد العنف المقدس وضد الجهل والتفاهة. إنه خطر « ثورة تخديرية » جديدة، غرضها تركيز حُكم التفاهة وتعليب العقل. ويقترح فيلسوف السياسة أن نقاوم التجربة والإغراء واللعبة وكل ما لا يشدنا إلى فوق، و ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا باسم الخبرات المعادية للشرف وللعقل، والمحرِّفة للمفاهيم الكبرى خدمة لرهانات اللعبة. ضروري أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، والشعب، والنزاع، والجدال، والحقوق الجمعية ، والخدمة العامة، والقطاع العام، والخير العام، والضمير، والنقد، والممانعة .. وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل، فلا فصل بينهما .

   إن أهم مؤشرات سيطرة التافهين يؤكد تفريخ جحافل الخبراء السماسرة باسم السياسة والخبرة العلمية الذين يعادون العقل النقدي ويحاصرون الفكر الحر. وما نشر المواد العلمية ودعمها وإشاعتها بحملات إشهار كبيرة على حساب علوم الإنسان والمجتمع سوى مدخل الحرب التي يخوضها التافهون ضد العقل النقدي الحر. ولذلك يعتبر المثقف العدو الأول للخبراء الذين تصنعهم ماكينة الرأسمالية المتوحشة لصالح نشر التفاهة ضمن قواعد اللعبة.

  وختاما إن الأساس، يؤكد، دونو ، هو  أن نقاوم وأن نمانع عبر صون حرمة العقل النقدي، وبفرملة مفهوم الخبرات الذي يشرعن بؤس اللعبة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *