الايديولوجية والبلاهة والنضال المشروع

الايديولوجية والبلاهة والنضال المشروع
شارك

الشن الطن

فؤاد الجعيدي

أراني بوهمي من زمن قديم، فيه تعلمت أن الحياة العنيدة تأخذ من ناصياتها وتجر في الطرقات لتطوع، لكنها كلما انفلتت من عقالها قد تسقطنا في منتصف الطريق، بركلة قوية من حوافرها السوداء.. في طريقها أرتني الصغار الذين لا يفككون الرموز والطلاسيم وما أكثرهم في المنعطفات والمحطات التي قد نوجد فيها صدفة ودون ترتيب لما ينبغي أن تكون عليه الحياة، لو كان بودي ما خرجت من هذه المدينة التي كانت لي بها حظوة معانقة البحر، كان البحر يلوح من بعيد ويأخذني ويصنع لي من موجه الحاضر في ذاك الأفق تمردات قاسية، تدفع بي للهروب من حصص الدراسة وأقصد البحر مرورا بالمدينة الأوربية والنساء الشقراوات المليحات ببياض أجسدهن الممشوقة وعريهن القاتل.. كانت المدينة دارا بيضاء بكل ما تحمل معاني البياض من قرة في أذهان الناس.

أترك خلفي في هذه الأحياء الشعبية من درب السلطان وفيها اللحم المكتنز للشخيات وهن في تلك الحوانيت الضيقة يرددن العيوط بجانب الماريشال ويدخنن تبغا رخيصا اسمه كازا، بخلاف في ليالي الحفلات الشعبية يطلبن السجائر الأميركية الشقراء والنبيذ الأحمر .. وهي عادات لا يجال فيها الناس.. هذا الزخم القديم شكل في ذاتي طبقات جيولوجية لم أنساها، فتحت عيوني على تناقضات قاسية لكن وجدت التأويلات المناسبة  من الحياة ذاتها.

 هذه الحياة علمتني  في تقاطعاتها أن صادفت أناسا كنت، أبتسم لهم صدقا ولا أدري لما لا يرتاحون إلي بخلاف آخرين  نسجت معهم محبة صوفية واحتضنهم بيتي، واختبرت أن أولئك الذين يعلبون  في عيونهم مكرا معلنا، واستعدادا حاضرا لصراع الديكة مثلما يكون عليه الأمر في مدينة البصرة العراقية، الديكة التي تشارك في الصراع وإن كان يطلق عليها مجازاً مسمى الديوك الهندية فمعظمها من أصول أفغانية وإيرانية وتركية وهندية وباكستانية وقبرصية، وتختلف في شكلها وصفاتها القتالية وفقاً لأصولها. ديكة الأفغانية والباكستانية والإيرانية تتميز عن غيرها بكبر حجمها وكثافة ريشها. أصحاب الديكة يقدّمون لها تدريبات مكثفة وعناية كبيرة، تتضمن إخضاعها لنظام غذائي يشترط  فيه إطعامها اللحوم البيضاء والحمراء، فضلاً عن الحبوب وقشور الفاكهة.. ليس صدفة أن تكون هذه اللعبة في هذا المكان الذي شهد نزيف الدماء على معارك بلا معنى ولا هدف مثلما وقع في ثورات بلدان أخرى أنتجت الرخاء والازدهار للبشر.

 في هذه اللعبة تدرب الديكة، على الصراع ويدخلون بها إلى حلبة الرهان ويتطاير الريش في الهواء والمنقار يدق على المنقار، اللعبة تقتضي وجود حلقة يلتف فيها المراهنون على الربح. كما يحدث في قلب المجتمعات لا سيما التي تعاني من القهر والبؤس وضغوطات التخلف، ترى بشرا  يتهافتون على الحظوة والتقرب، واستخدام  بسمات ماكرة صفراء.. صفات يدرك  مكنونها، والكل لا يأخذه الشك في هذا اليقين المؤلم عن طباع لا تستوطن سوى النفوس الضعيفة..

الحقائق الاجتماعية كما عشتها في العديد من المحطات، لن تسعفنا أن نكون بالقرب من الضريح، وعين الماء وفي البهو المطل على الشوارع الطويلة وننتظر البركات لندسها في الجيوب بخنوع ونتسلل نحو الباب العريض بدون معنى .

ما أصعب الفقر والحاجة إنهما كفر. الراسخون في التجارب يدركون أن اللعبة الاجتماعية  تحتاج لمسافة من الحفاظ عن الذات وأن نتأمل الواقع الموضوعي الذي منه ينهض وعينا الاجتماعي وعليه يتأسس.

هناك من يختارون التفاهة.. والتقرب والتزلف ممن يظنون أنهم يحظون بالمراتب الاجتماعية، فتصير لهم ألفة مثل ألفة القطط البرية، ويضعون تدوينات تشبه خربشات الأطفال..

ظننت أنها غنت عليهم ( شخبط شخابيط لخبط لخابيط مسك الألوان ورسم على الحيط)

ماذا تعني التهافة عند آلن دونو؟  أننا ننسى مهننا ونستبدلها بالوظيفة لنصير عبيدا للنزوات اليومية، والتي تقهر العقل والفكر معا وتؤثث أدمغتنا عن وطن نراه شركة متى نحظى فيها بنصيب من الريع، وننسى الالتزام بقضايا أكبر من معاطفنا.

هذا القلق الوجودي يشعر به الناس في مسارات الحياة، ويترددون في  يتهافتوا على اليومي المثخن بالإيديولوجيات الزائفة والمسخ والتشويه للمثل والقيم التي نتصارع من أجل استردادها، ليس بتفسير الظواهر بل لتغيير كل التفاهات التي يصنعها تشويه قيم الناس في مختبرات المؤسسات المالية الكبرى التي تراقب العالم من خلال السيطرة بالنفوذ على أسواقه.

بتنا في حرب ضروس،  وحتى لا نخطأ أعداءنا وخصومنا الحقيقين الذين لا يوجدون بيننا، بل يرابطون في جبهات التمويه، ليعملوا على المزيد من تبضيعنا وتضبيعنا.

الأعداء الحقيقيون يحافظون على ثقافات التبرير، أن تظل لهم السلطة في ترتيب اللعبة الاجتماعية على أهوائهم،  لكنهم في نهاية المطاف، يكافحون ودون هوادة للاستمرار في سيطرتهم، ويعملون على صناعة الفزاعات كي لا نقوى على الحركة، يوزعون الخوف ليل نهار على الناس ويحذرون من الأوهام التي عشعشت في الرؤوس.

الثقافة الأخرى التي تعارض وتتصدى لهذا التعويم، تؤسس للقيم الإنسانية وللفضائل باعتبارها حقوقا غير قابلة للتنازل، ومنها الحق في التعبير في واضحة النهار على المواقف ورفض الصمت والغمزات ومناهضة التطرف والإقصاء والاحتواء والاستحواذ على خيوط النور المعرفي.

المعركة، عراك ابتدأ منذ ظهور المليكة وتقسيم العمل ولم يحسم إلى أيامنا هذه.. والناس وفي كل الظروف والأوضاع يوجدون في محطات معينية ويضعون أهدافا للتحرر من كل الأوهام التي صنعتها الايديولوجيات السابقة لاستقواء البعض على الكل.

وفي مدرسة الاتحاد المغربي للشغل، يعلمنا التاريخ أن انتزاع الحق في التنظيم، احتاج إلى تقديم شهداء ضحوا بالغالي والنفيس ليحيا الوطن، ومرت البلاد من لحظات عصيبة لعلع فيها الرصاص وأسقط الضحايا لكنهم انتزعوا الاعتراف بالحق في ممارسة النقابة والدفاع عن تصورات مغايرة لما ينبغي أن تكون عليه العلاقات الاجتماعية من عدالة وحرية وكرامة وهذا المجال من الكفاح الاجتماعي،  لا وصاية فيه لأحد على أحد سوى الشبث بالمشترك من المبادئ المرتبطة، بالوحدة والاستقلالية والديمقراطية، وأن لا نغير جلودنا مهما كانت الظروف.

إنه نضال يقوم على الناس بواسطة الناس ومن أجل الناس، ومواجهة الاستغلال الأعمى للإنسان لأخيه الإنسان، وفي هذا الخيار يوجد أناس لا هم بالرسل ولا الأنبياء لكن على أيديهم تقضى حوائج الناس.

تاريخ الاتحاد المغربي للشغل، مليء بالدروس والعبر على طينية رجال من هذا النوع قضوا نحبهم ولم يبدلوا تبديلا وهم في آخرتهم في مقام الشهداء.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *