تأملات في الغش ومستوياته

تأملات في الغش ومستوياته
شارك

د. سعيد ألعنزي تاشفين  ..

          كثيرا ما نناقش الغش مغربيا في سياق الاستحقاقات التربوية و كأن المدرسة العمومية وحدها التي يجب أن تخضع لسلطة الرقابة باسم قيم النزاهة و لشفافية. فكلما أوشكت الامتحانات الإشهادية أو قربت نهاية الأسدس التعليمي ، إلا و بدأ الاهتمام من لدن الجميع بالقول عن النزاهة و الصراحة و الضبط . فتصادف من على قنواتنا باحثين وفق  » بروفايلات  » محددة للنقاش يسردون مواقف بطولية عن  » المعقول  » و  » النيشان  » ، بما يضمن حربا مضمرة ضد المدرسة العمومية. و ليه ارتأيت أن أدلي بدلوي في الموضوع من أجل ملامسة رصينة ترنو تجاوز التحليل التقنوي الرديء، نحو بناء مقاربة متماسكة و مستوفية لجميع محدّدات التحليل النسقي السليم .

          الغش هو كل محاولة لبناء النتيجة على أساس التزوير والتحريف، و بعيدا عن مؤشر الاستحقاق . بمعنى كل تدخل مشبوه من وجهة نظر الأخلاق العامة المتوافق عليها بالعرف و بالقانون . فكل محاولة للوصول إلى هدف ما دون وجه حق تدخل مباشرة في باب الغش. و أزعم إن كل القوانين و الأعراف و التنظيمات الرمزية الضابطة للسلوك الجمعي ترفض الغش بمنطق مخالفته لنواميس الفطرة السليمة و لقواعد العقل الرشيد. فجميع المجتمعات ، بالفطرة ثم بالأديان ، تعرف ثنائية الخير و الشر ، و أعتقد إن الغش كسلوك و كممارسة مرتبط بالإنحراف عن قواعد حسن السلوك و عن أسس الضمير الجمعي المتوافق عليها من لدن كل جماعة بشرية .

         مغربيا نلمس بوضوح رفض المجتمع للغش نظريا و شكليا على الأقل. فأعراف القبائل و القوانين الجاري بها العمل تنصّ على رفضه لما له من تداعيات سلبية على المجتمع و على حسن سير العلاقات الاجتماعية و على منطق تمثل الأخلاق العامة و الامتثال لها. و على هذا الأساس من البديهي أن نجد الاستشهاد بالدين متعدد و كثير للتأكيد على تحريم الغش بالصريح من العبارات، كما أن القانون الجنائي يجرّمه لما له من نتائج وخيمة على الأمن العام لكونه يقيم الأشياء على الباطل و يزيغ عن إحقاق الحقوق. لذا فالغش والتزوير والنصب والاحتيال و التحايل على القانون.. كلها جرائم خصّص لها المشرع نصوصا محددة تفيد الإدانة والرفض. كما أن للقذف و التشهير علاقة بالغش لأنهما يرتبطان برمي إنسان بريء بصفات مغشوشة افتراءً وادعاءَ بما ليس فيه. و من محصلة ما سلف أن الغش مرفض بالقانون و بالدين و بالعرف و بالضمير الطبيعي  و عليه  » فمن غش ( ليس من غشنا ) فليس منا   » ؛ و معناه أنه ليس مقبولا ضمن أخلاق الجماعة المتعاقدة على نظيمة قيمية و على نسق تداولي معين . واستنتاجا إن الغش بشكل ما تجلّ للانحراف و الزّيغ .

        من باب تحصيل حاصل مناقشة الغش على قاعدة الأخلاق العامة لأن المجتمع متوافق على رفض الشر و قبول الخير ، رغم أن كل أشكال الشر تولد من رحم هذا المجتمع نفسه ، لذا يبدو القول أن الغش مرفوض يشكل استطرادا نظريا و حشوا كلاميا ليس إلاّ . و إذا كان الرأي العام السائد هو أن الغش سلوك غير صحي ، فإن المشكل يظل معروضا على مستوى التصور الاختزالي للغش و مقاربته مقاربة مقياسية محدودة و ضيقة . فمحاولة عرض سؤال الغش فقط على مستوى ما يقع في قطاع التربية و التعليم ليس سوى تكتيك هش لتمرير مغالطات مسمومة لتبرير التدخل الأخلاقوي لمحاصرة السلوك وفق أجندة الإساءة المسبقة المضمرة للمدرسة العمومية عن سبق إصرار . فالمتعلم من وجهة نظر علم النفس التربوي مجرد ذات غير مكتملة التكوين ، و هي على طور التنشئة و التكوّن ؛ و بالتالي فانخراطه في عملية الغش ينبغي أن يُقارب وفق تصور بيداغوجي علاجي و ليس وفق منطق بيروقراطي عقابي زجري . إن محاولة التنديد بالغش في التعليم بمنطق تقنوي مرتبط مثالا لا حصرا بتشديد الحراسة و استعمال جهاز السكانير و تعميق لجن التفتيش و الإفتحاص ، و غيرها من التدخلات الزجرية ، يؤكد تخلف آليات الاشتغال في مجال التربية و التعليم عن مواكبة الحاجيات البسيكولوجية و الوجدانية للمتعلمين ، و هو ما يعكس رغبة في الحيلولة دون امتداد الفعل التربوي إلى إنتاج بيداغوجي قائم على توطيد دور المدرسة في التنشئة الاجتماعية بأساليب مرنة لصالح إدماج المتعلمين في قوالب الاقتناع بأهمية القيم الفضلى كالنزاهة والاستقامة و الاستحقاق، على نقيض ما يثبّت من فشل ذريع لمنظومة القيم في إنتاج الأخلاق و الحكامة على طول كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية والنفسية والسياسية. إن تدبير التقويم البيداغوجي بمنطق أمني منحصر في اصطياد الأخطاء دليل على فشل جميع الأطراف في إنتاج العقل المبدع بعيدا عن تسلط ٱلياع الضبط والردع الأمنيين ، حتى أن تسميات معينة مثل الفرض المحروس و المفتش التربوي و نقطة المراقبة و نقطة المواظبة، و غيرها .. تندرج ضمن تخلف الهاجس الأمني الذي يضبط مختلف ميكانيزمات اشتغال البيداغوجيا و التربية على مستوى التقويم و التحصيل عن مواكبة ما حصل من انفجار معرفي بفضل العولمة التكنو – معلوماتية التي تجاوزت المدرسة و خرّبت المجتمع . و ماذا لو تأكد لكل القائمين على المبالغة في استيعاب الهاجس الأمني في تفعيل التقويم التربوي أن أحسن نموذج تعليمي في العالم يوجد بفنلندا التي تمنع على المدرسين إلزام المتعلمين بإنجاز أعمال منزلية ، كما تمنع تدريسهم أكثر من 14 ساعة أسبوعيا ، هذا ناهيك عن كون نظام التقويم البيداغوجي مرن جدا لدرجة أن المرشحين للامتحانات الإشهادية يتم إعدادهم بحصة رقص وغناء و فطور جماعي على نغمات موسيقى هادئة قبل منحهم أوراق الامتحان، وبحضور أطباء نفسانيين ومساعدين اجتماعيين. والأمر مقبول لأن المدرسة مبدئيا ليست مؤسسة لممارسة العقاب كما ذهب ميشل فوكو تفكيكا و تحليلا ، بالأحرى هي مطالبة أن تحفّز الذكاءات المتعددة لدى المتعلمين بدل نمطية الذكاء الأحادية التي تعتبِر الرياضيات و الفيزياء مقياسا لاختبار الذكاء !! و كأن كل مواد علوم الإنسان و المجتمع و باقي تخصصات الآداب لا تجدي نفعا بمنطق نمطية الفهم والاستنتاج على شاكلة المطلوب تجاريا. وأننا نشاهد  » رجال الأمن الخاص  » يحرسون الثانويات و الإعداديات و يراقبون قاعات الدروس كي لا تتعرض للتخريب، فإن ذلك يؤكد أن المجتمع لا يحتضن المدرسة ، و بالتالي فمنظومة إنتاج القيم باءت بفشل ذريع من لدن المجتمع المتحامل على المدرسة دون أي قدرة على  احتضانها. فعدم قدرة المدرسة على حماية نفسها لدرجة اللجوء إلى الكاميرات و أعوام الأمن الخاص و تشديد الأسوار لحمايتها يؤكد بالمباشر أن المجتمع عاجز عن حمايتها و عن فهم دورها في بناء الأنساق المواطناتية، و التالي يتحقق بالدليل الإفلاس الجمعي في إنتاج القيم بالوازع الأخلاقي بما انتهى إلى جعل الضبط و الزجر الوسيلة الوحيدة الكفيلة بحماية المدرسة . و أمام استقالة الأسرة و انحراف منظومة الإعلام ، إلى جانب انفجار وسائل التواصل الاجتماعي من فايس بوك وأنستغرام ويوتوب، ونمطية المسجد .. يتأكد تحامل المجتمع على المدرسة و كأنها مجازا وحدها الحاملة لرسالة النبوّة في مجتمع الكفار . و يبدو أن انحراف كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية يرجع سلبا على أداء المدرسة التي تحاول بشق الأنفس تعويض كل الاختلالات التي تسببها كل المؤسسات المفلسَة من إعلام وشارع عام ومسجد وأسرة وباقي الامتدادات الرمزية بالفضاء العمومي الذي لا يترك المدرسة تقيم ماهيتها الوجودية بسلام ؛ بالأحرى أضحت مستهدفة من الجميع ضمن قمعية الظاهرة الاجتماعية قياسا على معنى هذا المفهوم عند إيمل دوركايم ، و وحدها تظل المدرسة مُمانعة بالقليل من الإمكانات المتوافرة لها مقارنة مع مؤسسات أخرى أكثر حظوة لدرجة أن المقارنة بين واجهة مدرسة و واجهة محكمة كفيل بتفكيك العنف الرمزي الذي يطال صورة المدرسة لدى تمثلات المجتمع . و لأن المتعلمين أولا و أخيرا جزء من الكل ، فإن ملامسة الغش في مستويات متعددة ينعكس سلبا على جهاز الإستقبال البسيكولوجي لدى المتعلمين و يربك تمثلاتهم إزاء المدرسة و المدرس . و هذه بعض مؤشرات الغش التي تؤثر سلبا على الخريطة الذهنية للناشئة .

✓ في مؤشرات الغش :

     إن خوصصة التعليم والانتقال التعسفي من المتعلم إلى الزبون يفضي منهجيا الى سوء توزيع الثروة الرمزية، وهو ما أكده بيبر بورديو الذي شارك، إلى جانب ميشل فوكو و جون بول سارتر ، في مظاهرات 1968 بفرنسا دفاعا عن المدرسة العمومية . فالتلميذ  في مدارس السواد الأعظم من الشعب بالكاد ينسجم مع سياجات الضبط التربوي الذي حوّل كل أشكال التقييم إلى محاكمة قاسية في تداعياتها النفسية والاجتماعية و أن الأستاذ قياسا مجرد مندوب للحرية المحروسة، بيد أن تلاميذ البعثات ومؤسسات الحظوة بالقطاع الخاص يستفيدون من تعليم مرن وعصري وعلماني مفيد بما يؤهلهم لإيجاد مواقع مناسبة في سوق السلطة الرمزية في أفق احتكار مناطق النفود في هياكل الدولة مستقبلا على نقيض مدارس  » اولاد الشعب  » التي تؤهل أبناء القاع الاجتماعي لولوج معاهد التكوين المهني للتمكن من  » لحرفة  » و » الصنعة  » ضمن بنيات التقسيم الطبقي للعمل، أو الولوج إلى بعض المهن البسيطة المستقطبة لأبناء الهامش الاقتصادي الذين يأويهم التعليم العمومي في أحسن الأحوال. وما سوء تقسيم الثروة الرمزية إلا من مُحبطات إقناع الناشئة بقيمة العدل والإنصاف في صون قدسية الحرم التربوي على قاعدة تكافؤ الفرص ضدا على أساليب الغش و التدليس المرفوضة. و حسبي إن الاختلاف البيّن بين برامج التعليم العمومي بيداغوجيا وديداكتيكيا من جهة ، و برامج التعليم الخاص بالمحظوظين الذين يستفيدون من برامج عصرية و مؤهلة و التي تعتمد أحدت المناهج بوسائل ديداكتيكية عصرية و بمقاربات بيداغوجية جديدة من جهة ثانية ، يشكل أول بوادر سوء تحصين ما أسميه ب  » المواطنة التربوية العادلة  » . إن تقسيم المجتمع بمؤشر التعليم أخطر سبب يعمّق مأسسة الإحباط لدى أبناء القاع الاجتماعي و أسرهم التي لا تفهم في منهجية اشتغال ٱليات تقسيم الثروة الرمزية ضمن محدّدات ما سماه بورديو و ميشل فوكو بمسلسل إعادة الإنتاج .

       الاهتمام بالمدن وإقصاء القرى على مستوى السياسات العمومية التربوية والثقافية بشكل مكشوف في برامج التنمية الترابية يكرّس ثنائية المركز والهامش ، ثنائية الاهتمام والإقصاء، ثنائية التأهيل والإفلاس؛ ومن نتائج ذلك الإحساس بالغبن في مناطق التهميش والإقصاء و الحاجة ، وهو ما يجعل المدرسة تحوي كل الممارسات السلبية لكون المتعلمين أولا وأخيرا نتاج الوسط السوسيو – ثقافي و الطبقي المنتج لمفاهيم الحقد الاجتماعي والاغتراب كما أكد هوركهايمر و أدورنو من داخل مدرسة فرانكفورت . فإنجاز مسرح أو كورنيش في طنجة أو غيرها من المدن المحظوظة برقم معاملات ضخم، وعدم تمكين ساكنة المغرب المنسي من طبيب عام يعالج أمراض العصور الوسطى مثل السل والليشمانيا يعمق حتما فكرة الغش في التمثلات العامة التي تقيّم سلبا أداء السياسات العمومية، ومن نتائج ذلك إعطاء الدليل على سيادة الميز في توزيع التنمية الترابية على أساس تقسيم ميزانية التجهيز من قبل الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام ، و بالتالي تندرج أزمة المدرسة ضمن أزمة تقسيم الثروة الرمزية وتوزيع التنمية الترابية على قاعدة إعدام مبدأ تكافؤ الفرص كما أكد بودون. و ليه من الحيف مقارنة أداء المتعلم بمناطق المغرب المحظوظ بالمتعلم بمناطق المغرب المعطوب لكون محددات الهابيتوس منتجة للذكاءات المتعددة  على اعتبار أن الذكاءات نتاج لبيئة نسقية، ولأن التلميذ ثمرة لمختلف سياقات النمطية الحتمية ( الحتمية الاجتماعية بلغة كلود ليفي ستراوس )، رغم وجود بعض الاستثناءات ، والقاعدة أن الشاذ قياسا لا يقاس عليه .

    عدم أداء بعض الأغنياء للضرائب التي على ذمتهم لصالح الدولة بما قد يدعّم إنجاز مشاريع التربية والثقافة ليس إلا شكلا أخر من الغش الواضح ، في حين تُقتطع الضريبة من العين بالنسبة للموظفين الصغار، وذلك من شأنه أن يعمق مناخ اليأس و يفيد أن المواطنة التي تقاس بالضرائب غير عادلة، وبالتالي تنعدم فرص إنماء الأرياف بأموال المواطنة الضريبية ، و عليه تتموقع المدرسة داخل سياجات التهميش والتباينات الطبقية التي تعادي الخطاب الذي تنتجه المدرسة لدرجة أن المجتمع يحقد على المدرسة ويحاربها، وما التخريب الذي تتعرض له بعض المدارس هنا و هناك ، و ما النكت التي تُنتج ضد المعلمين إلا شكلا واضحا للعقاب و الحقد حيال المدرسة و المدرسين ضمن ٱليات تشكل العنف الرمزي ضد سلطة المعرفة .

 عدم قدرة الأحزاب السياسية على تحديد ولايتين للأمين العام على الأكثر يعكس هشاشة في استيعاب الدرس الديمقراطي و في تجريم الغش الذي يطال العملية الحزبية. إنه غش من نوع أخر وتجاوز بيّن لقواعد الديمقراطية كما هي متعارف عليها دوليا، وبالتالي يتم إنتاج نخب انتهازية وصولية من داخل السلطتين التنفيذية والتشريعية ، وعليه تكون السياسات العمومية غير الضامنة للعدل من صنع نخب الغش السياسي، وما المدرسة إلا نتاج مخططات نخب الأحزاب التي تأتي بقرارات مفاجئة ضدا على المدرسة نفسها في أحايين كثيرة حتى أصبح المدرسون مجرد أعوان تنفيد لا حول لهم و لا قوة ضمن ماكينة التخطيط و التفكير العمليين و بأسلوب بيروقراطي صارم ، و حتى أصبحت الإدارة مجرد وكالة لتنفيذ المشاريع التي يأتي بها الفاعل الحزبي باسم السلطة التنفيذية .

   منح تقاعد محتشم للموظفين الصغار ، و بالمقابل منح تقاعد مريح للوزراء الشباب من زعماء الكوطا في الاستوزار، لا يمكن إلا أن يكون غشا، وهو ما يكرّس الإحساس بالحيف لدى شرائح واسعة من أبناء السفح الاجتماعي الذين يرتبطون بعلاقات متشنجة بالمدرسة، وما العنف بالوسط المدرسي غالبا إلا نتيجة للقهر الحاصل بسبب سوء توزيع الثروة المادية بما ينعكس مباشرة على واقع التعلمات و التحصيل، ويكرس نتيجة الحقد والضغينة في نفسيات المراهقين الذين يتخذون من المدرسة مطية لتصريف الحقد الطبقي الدفين ، و ما الأستاذ إلا صورة مصغرة  للدولة ، وهو ما يجعله هدفا لكل القذائف والرمي حتى أن المتعلمين يرون أساتذتهم بنظرة الازدراء لأن الأستاذ في المخيال العام موظف دولة مستفيد من العطل الكثيرة و من أجرة سمينة و لا يبذل أي مجهود !! و هذه الصورة النمطية التبخيسية تراكمت بعد استهداف المدرسة بماكينة العنف الرمزي الذي تمارسه السياسات العمومية باسم التعليم المكلف للدولة .

    تنظيم مهرجانات متخصصة في استقبال بعض الوجوه بمبالغ خيالية، وبالمقابل وجود فنانين مغاربة يعانون بصمت و يموتون قهرا أمام مرأى ومسمع من الجميع، لا شك إنه غش أخر يكرّس النظرة الدونية للفن والعاملين به. فمن جهة نجد مواطن الرباط مثلا يتفرج مباشرة في رقصات مهرجان موازين، في حين أن مواطني الهامش يتفرجون في الرقصات نفسها على شاشاتهم الصغيرة. إنه الغش الذي يجعل كل المهرجانات و اللقاءات الفكرية و الثقافية و الفنية من نصيب جهات بعينها من الوطن على عكس جهات أخرى مهمشة في كل شيء . فلماذا لا تُعتمد طريقة التناوب في تنظيم المهرجانات من الرباط الى مكناس إلى الراشيدية إلى خنيفرة نحو العيون بما يؤكد أن الحقوق و الامتيازات متكافئة أمام أبناء الوطن الواحد و على لبنات المساواة و العدل ، بدل تكريس سياسة مغربين غير متوازيين ، و هو ما يوطد الاحساس بالظلم لدى شرائح واسعة من الأسر التي تحاول الانتقام من المعلم و الأستاذ لانهما صورة مصادق عليها للدولة .

    عدم القدرة على مناقشة التعويضات السمينة جدا للسادة المدراء العامين والسفراء والقناصل والوزراء، في الوقت الذي تفتقر القرى إلى مكتبات عمومية وإلى بنيات تحية لممارسة الأنشطة الثقافية الموازية، يؤكد أن الغش يظل القيمة المركزية في تحديد نفَس السياسات العمومية، وو ما يشرعن التباينات المجالية على مستوى استيعاب خطاب الحكامة ، و بالتالي إنتاج قيم تربوية و ثقافية عميقة و منصفة .

هذا ناهيكم عن الغش الثقافي والغش الهوياتي و الغش الاقتصاديو ذلك على مستوى التفاوتات الصارخة بين الأقاليم والجهات، وبين المحظوظين والمستضعفين، وكلها مؤشرات تنمّ عن توريط المدرسة في كنف علاقات غير متكافئة ماديا و رمزيا .

    و بناء على ما سلف أجزم إن الغش منظومة مترابطة ومتكاملة غير قابلة للتجزيء، ومقاربتها تحتاج إلى تعامل نسقي مركب  كما أن محاربتها يجب ألا ترتبط بالبسطاء من المواطنين وبأساليب الردع والزجر، بل يجب أن تطال كل المسؤوليات أفقيا و عموديا نحو مقاربة موضوعية لمدى امتثال الحكومة و البرلمان و كل المؤسسات لقيم النزاهة و الشفافية . و أعتقد أنه بإصلاح كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية يجوز للمدرسة أن تؤدي أدوارها بكل احترافية ونضج واستقلالية .

    نافلة الفهم إن التحليل هنا لا يشرئبّ إلى شرعنة الغش ، بالأحرى يروم الإحاطة الشاملة بدواعي الإفلاس الذي يحاصر إنتاج قيم النزاهة و الشفافية . و حري بكل نساء و رجال التعليم حسن تحفيز المتعلمين إلى توظيف ما يتميزون به من ذكاءات متعددة ، بدل اعتماد نمطيات بئيسة في التقييم على ضوء أساليب تقويمية بائدة ترنو اصطياد أخطاء المتعلمين وممارسة العقاب و الزجر باسم التقويم ، و هذه معركة جديرة بالتركيز من لدن هيئات التأطير التربوي بدل ذهاب المفتشين نحو اصطياد أخطاء المعلمين بمنطق زجري أخر، بما يجعل الأساتذة المدرسين هنا، و لمفتشين التربويين هناك، مجرد أعوان مهمتهم ممارسة العقاب على أشلاء تحفيز التعلمات وبلورة منسوب القيم و الكفايات لصالح مدرسة تنتج مواطنين متحضرين ومسؤولين لا أفرادا جبناء وانتهازيين ونمطيين فكرا وممارسة .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *