مواعظ الخبز

مواعظ الخبز
شارك

عبد الرحيم كوديال

كان الصغار يصطخبون داخل الحجرة، يختبرون أدواتهم البسيطة في التشكيل و الإبداع، و كانوا يختبرون أنفسهم فيما إن كانت قد انسجمت مع الآخر، الذي طالما شكل بالنسبة إليها حاجزا عسيرا… كانت حصة التربية الفنية أجمل ما عرفوا، في هذه المدرسة التي تبدو غريبة وسط هذا الدوار البعيد، لأنهم كانوا يجدون فيها استمرارا لما يتركونه في الدوار… لذلك فمتى حضروا الحصة وجدتهم يصرخون في خفاء، ويتحدثون في جهر ويتنادون من أطراف القاعة…

 وسط هذا الصراخ و ذلك التنادي، سمعت في لحظة طرقة خجولة على  الباب. صه …صه،  صحت في الأطفال فاستعادوا  هدوءهم  تدريجيا،  فقمت إلى الباب  بخطى  بطيئة. وإلى خلدي تتبادر أشياء عديدة  اقتضت مني  التفكير، حتى في أشياء مستحيلة! فتحت فإذا برجل من الأهالي، كنت أمر عليه وأنا ذاهب إلى المسجد للصلاة،  فأجده منزويا عن الناس، يجلس إلى صخرة على مشارف بيته لا يفارقها إلا في وقت متأخر من الليل … و كنت إذا صادفته ألقي إليه بسلام ممزوج بابتسامة تشبه البراءة والسذاجة، كان يحييني بتحية فيها احترام كبير، ولم أكن  أجرؤ على الجلوس إليه والتحدث  معه إلا في يوم دعوته إلى الصلاة، وفي بداية كل عام من الأعوام  الثلاثة  الماضية،  كنت  أطلب  منه تسجيل ابنته في المدرسة، ولم يجرؤ هو نفسه  على الحديث معي يوما، أو مفاتحتي بالكلام، لذلك فلما  فتحت الباب، بدأت تجول  بخاطري أفكارا غريبة، وأنا أتحقق صفحة وجهه التي كانت تتحدث إلي عن بؤس وحرمان ظاهرين… بادرني بالسلام كما اعتاد، بما فيه من احترام ولطف وأطنب في السؤال عن أحوالي، وأنا من كل ذلك أتعجب وفكري يعالج الأمر في جهد جهيد …. كأنما كنت أستبق لأعرف نهاية الحديث، كان لساني يردد من غير وعي كلمات معهودة  » بخير…  لابأس….. بخير….. بارك الله فيك »  و في لحظة  نادى على ابنته التي كانت تختبئ خلف الجدران و قدمها إلي  :

–  هذه فاطمة  ابنتي جئت لأسجلها .

–  لكن يبدو أنها تجاوزت سن التمدرس .

– اعلم  لكن انظر في  أمرها  جزاك الله خيرا .

– ولم  لم تفعل كل هذه السنوات؟

 أطرق برأسه  لحظة ثم قال :

– لقد كانت تساعد أمها في حمل الرضيع !

– لا بأس…

سلمني الحالة المدنية و اتكأ على الجدار، وطفق يحك ناصيته في عجلة.

 كان سن الفتاة قد تجاوز العاشرة و النصف بقليل… بعدما تصفحت الكناش وسجلتها و دعته بما يشبه الخجل  وأمرت الفتاة بالدخول .

تقدم الرجل بضع خطوات ثم التفت إلي في تردد :

  • صحيح سيدي، أن الدولة ستساعد الفتيات بالدقيق ؟

رنت في أذناي هذه الجملة بقوة  وجعلت أنظر إليه بنظرات إشفاق و أسف

قلت: »  نعم …ربما ». .

 فمضى الرجل في عجلة وهو يردد:

-جزاك الله خيرا… لك جزاء الله وحده

 تابعته بعيني حتى اختفى عن ناظري، وعدت أحدث نفسي : » سبحان الله أكان  الدقيق أذكى من مواعظي ؟

  » دخلت الحجرة ثم تأملت الفتاة الصغيرة، التي قبعت في الخلف،  وحيدة، خجولة حذرة ماذا لو كبرت هذه الزهرة و أدركت أن سببها في ولوج المدرسة كان فقط كيس دقيق ؟ لربما  ستجعل من عامها يوما تخلد فيه ذكرى منقذها  من الجهل .. ذاك المسحوق الأبيض الذي لا تسمع صوته سوى البطون الجائعة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *