براديغم السلطة بين المواطن والمجال والدولة

براديغم السلطة بين المواطن والمجال والدولة
شارك

د.سعيد ألعنزي تاشفين

 

     يبدو لي أن المدخل الأساس لمطارحة التمظهرات المعيبة للسياسات العمومية هو العجز عن استيعاب دقة الروابط بين المواطنة و المجال. فالمواطنة هي القيمة الفضلى التي تنقل الأرض، كشرط جيولوجي ثابت، إلى التراب كفضاء رمزي متحرك. بمعنى أن المواطنة هي مختلف أنساق القيم الضامنة لحسن تعايش كل جماعة بشرية على أرض ما، إنها بذلك الشرط الفلسفي اللازم للانتقال من الفرد التابع لقساوة الحتمية الجغرافية ، نحو المواطن المنتج و المتفاعل مع كل الرمزيات لكون الإنسان حيوان رامز بلغة كاسرر .

    إن مطارحة فكرة المواطنة يذهب بي مباشرة إلى تبيان حجم التباينات المجالية الحاصلة، رغم زخم المجهودات المبذولة من لدن الدولة لعقود ، و رغم أهمية المتون النظرية المؤطرة لمضامين مراسيم اللامركزية واللاتركيز منذ عام 1976 ، بين مناطق المغرب المتقدمة و المتأخرة . فالمواطنة تجلٍّ للسياسات العمومية على المجال، إذ لا يجوز الحديث عن المواطنة إلا عند الإنسان الذي يمكن تصنيفه كحيوان مواطن قياسا على كونه حيوانا سياسيا و تاريخيا و ناطقا . وإيتيمولوجيا المواطنة صفة مستمدة من المدينة، لأن المواطن هو الفرد الذي تأويه المدينة و تحتضنه ضمن بوتقة الحقوق في شموليتها . لذلك في علم السياسة كانت توصيفة المواطن رديفة المجتمع الإغريقي القديم خلال اللحظة الفلسفية المؤسسة عندما أنتج المجال فكرا جديدا يشرئب إلى معانقة الحكمة ضمن تداولية الفلسفة كنمط فكري قائم على اللغوس بدل الميتوس السائد بإيعاز من صخب الأوليغارشية المؤمنة ، و كتفكير نظري بديل ، كما أكد أفلاطون في متنه الأساس  » البوليتيسيس  » ، حيث إن ميلاد الفلسفة كان في السياق الرمزي نفسه الذي ولد فيه المواطن داخل المدينة كمجال جديد متحرر من سلطة الميتافيزيقا التي كانت تؤمن بالفرد ككائن ميتي متعالي معياري تتحكم فيه أقدار السماء . و أعتبر أن مفاهيم محددة مثل فلسفة / مدينة / مواطن شكلت البراديغم المعرفي الذي أنتج حضارة الإغريق بأثينا المنفتحة على الحوض المتوسطي و بحر إيجه على نقيض ما كان من جمود بمدينة إسبرطة بعلة التحكم العسكري في شؤون الأفراد ( ليس المواطنين ). وعليه منهجيا من الضرورة بمكان إعادة تقييم سياساتنا العمومية في ضوء العلاقة الدقيقة بين المجال / التراب و الفرد / المواطن و القدر = السماء / السلطة = الحكومة، بما يزكي الفرضية المعرفية التي تفيد أن النسق الحداثي يقتضي الاعتراف بكون التعبير عن الرأي كفلسفة لدى المواطنين الأحرار والمتحررين ملازم لرمزية المواطنة و نتائجها السياسية ، بالقدر نفسه الذي يجعل تمثّل الحكومة للسلطة خاضع لرقابة التعاقد الذي تفرزه صناديق الاقتراع . بمعنى إن منع الأفراد من التعبير الحر عن تمثلاتهم للأرض بكل تناقضاتها الجامدة ، بما يعرقل الانتقال نحو المواطن الفعال والفاعل في تدبير شؤون المدينة تحت كل الضمانات بقوة القانون كتعاقد جماعي ضامن للسلم الاجتماعي، يحول دون استيعاب مقولات المجال / التراب / المدينة ثم المواطنة كنسق جامع و شامل و متجدد زمانيا و مكانيا .

    إن الفرق بين البنية التقليدية الجامدة ، كما كان في كنف السياج الفيودالي لعشرة قرون بأروبا منذ منعطف سقوط روما و استئساد الإقطاع ، و النسق الحداثي، على امتداد الأزمنة الحديثة منذ انبلاج الثورة الكوسمولوجية مع كويرنك وكاليلو، هو الفرق المنهجي بين الفرد ، التابع و المحاصَر ، و المواطن ، الحر و المستقل ، وهو فرق مؤسِّس لآليات تداول السلطة التي تؤطر التراب كمجال حداثي خاضع لسلطتي العقل و التعاقد كما أكد رواد فلسفة التنوير بعيدا عن تداعيات سوء تأويل الإيديولوجيا كما بين ذلك بول ريكور وفق المحددات الثلاث و منها الإيديولوجيا كتشويش والإيديولوجيا كتبرير والإيديولوجيا كوعي زائف ؛ وما كل تبريرات شرعنة الإخلال بالمواطنة إلا شكل أخر من الإيديولوجيا كوهم متداول .

    ومن منطلق علم السياسة يولد مفهومي الديموقراطية التمثيلية ، كما تحدده تعاقدات صناديق الاقتراع، والديموقراطية التشاركية، كما تتاح أمام كل مؤسسات الفعل المدني كقيمة رمزية ممتدة أفقيا على طول الفضاء العمومي، كأدوات معرفية عقلانية حداثية تتيح للفرد المواطن كل فرص التحرر والانعتاق من تسلط العنف الرمزي و من كل الحتميات المحاصِرة لدينامية المجال / المواطنة . وأزعم ، على قاعدة رجحان العقل السياسي العملي ، إن الحكومة ، كهيأة حاصلة على تفويض شعبي ، ملزَمة ، من منطلق التعاقد المشكل للدولة المدنية العصرية ، بخدمة الشعب ، لأن الدولة ، من داخل علم السياسة ، إفراز للسيادة الشعبية ، عبر حسن تدبير الاختلافات و التوافقات ، من منطلق استثمار أدوات التداول على السلطة بميزان الانتخابات كوسيلة لإفراز الشرعية أولا ثم فيما المشروعية بقياس الخدمات المصونة للمواطنة . فالدولة، منذ عصر الأنوار نحو الحداثة و ما بعدها، هي التي تلتزم بتطويق العنف بكل أنواعه و إتاحة كل إمكانيات التعبير الحر و المستقل لكل الأفراد المواطنين داخل الوطن كفضاء عمومي رمزي ومادي متحرك.

   أستنتج إن كل مستويات أزمتنا ناجم عن العجز عن فهم المهام المنوطة بالدولة المدنية الملزمة بخدمة المواطنين الذين يلتزمون بدورهم بالدفاع عن الأرض /التراب الضامن للحياة الجماعية السعيدة ، بما يجعل تلك الأرض مجالا ترابيا رمزيا غير ثابت على منحى سياسي واحد ، بالأحرى المنفتحة على حق كل المواطنين في المشاركة الفاعلة في بلورة التطلعات نحو معانقة السعادة كأفق فلسفي متعالٍ ينشده المجتمع برمته. وما إدراك السعادة بالهيّن إذا لم تنتصر كل الإرادات إلى حسن استثمار المشترك للارتقاء بمنظومة الحقوق ، على أن مشروعية الدولة فلسفيا تكمن في خدمة الإرادات الفردية المشكلة للإرادة الجماعية ، و ما هذه الدولة مرجعية إلا إرادة جماعية شرعية ، نحو توافق كل الإرادات التي يعبر عنها المواطنون وفق ما يسمح به الحق الطبيعي / التعاقد / القانون، و م لم يعودوا أفرادا بالمعنى المادي ، بكل حرية ملازمة.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *