بين صمت اللسان وصمت القلوب.

بين صمت اللسان وصمت القلوب.
شارك

ذة/ ثريا الطاهري

      إذا كان سقراط يقول ما معناه أن   « دواء الغضب هو الصمت « فان هناك من يقول عنه ،  أنه « لغة العظماء » وقد يكون  كذلك سترا للجهلاء. وعموما يبقى خلف كل صمت ألف حكاية.

     فإذا كانت الابتسامة أفضل ردة فعل في جميع المواقف، فإن الصمت هو أفضل رد على جميع الأسئلة مهما تنوعت او تعددت مشاربها .وقد تكون الابتسامة – كذلك  – بركانا خامدا، وتأسيسا على ما تقدم فان الصمت حكمة، واذا كان البعد معالجا  للأمور التي لم يستطع القرب علاجها، فإن الصمت

 يولد ويصنع مالا يستطيع الكلام تحقيقه . وقد يكون السكوت سلامة، والصمت زينة، والكلام من فضة والسكوت من ذهب، كما قيل سابقا.

      الصمت هو بكاء الروح عندما لايفهمها أحد، وهو فن لا يتقنه الكثيرون، فمن كان مبدعا بصمته أصبح مبدعا بكلامه، والجاهل هو من يعتقد أن الصمت يتولد عن عدم المعرفة

بالشيء، أو الخوف من المواجهة فحسب .بل الحقيقة هي

 ن الصمت هو أساس الحكمة والمعرفة، جوهرهما.

وعادة ما تبقى ما بين صمت اللسان وصمت القلوب مسافة كبيرة ، فيها ومن خلالها نجعل سكوتنا يتكلم كلاما لا يسمعه  الا العقلاء ،وكلامنا يصمت صمتا لا يحس به الا الراسخون في دنيا القيم الكونية  الصادقة .فعندما نختار صمت اللسان، فإننا حينها نرفض النزول إلى المستوى المتدني الذي يتحلى به بعض الخلق ، لأنهم / لأنهن لا يعرفون أن ثمة فرق شاشع بين مجالات الكلام واختيارات الصمت، وعندها يكون الصمت اختيارا موفقا ومستمدا من التحلي بالصدق والشجاعة والمقدرة، وليست عربونا للانهزام او الضعف  -كما يعتقد  – الكثيرون .

     وقد نصمت  – كذلك – لأننا نعلم أن حديثنا لن يغير اي شيء، ولن يفيد فيما نحن فيه خائضون . او حينما يكون ثوب الكلام ضيقا ،فنختار ارتداء الصمت لأنه المحاولة الأخيرة لإخبار الاخرين  – الذين هم جهنم على حد التعبير الفلسفي الوجودي – بكل شيء لم يفهموه حين كنا نتكلم.

  ويبقى صمت القلوب أنيقا في الكثير من الاحيان ، اذا كان الموقف او الوضع لا يسمح لنا بالبوح ،حتى ولو كان الألم عميقا. فهو صمت عن أخطاء من نحبهم حبا خاصا لهم، ووجعا كبيرا لنا، وقد يكون  – الصمت – أروع حديث بين الأحبة، فأفضل ما يمكن أن نتحلى به في هذه اللحظات هو الهدوء  والاستكانة والاستماع  إلى حديث العقل والفؤاد ، فمن أتقن هذا الاستماع / الانصات ، يمكن أن يتقن كل شيء، ويعالج كل الهزات التي تعترضه في دنياه العلائقية مع الاخرين .

وقد تعجز النفس عن محادثة الأحبة فنحن اليهم / اليهن ويزداد اشتياقنا في صمت، وعليه ومنه فإن الصمت ، لن يكون ابدا نسيانا ، ورغم أنه متعب، بل وقاتل – أحيانا-  لكنه يبقى أرقى وسيلة للرد الهادئ والمتزن والمعقلن  على الكثير من الكلام.

       اننا قد نعشق الصمت في لحظة الألم، لأنه الكفيل بصون وحفظ  كرامتنا، على ان لا يفهم  بأن كل صمت هو بمثابة الرضى او الاستكانة والتقبل ، فبعضه وجع يتعدى حدود الألم ويصبح من الصعب معه النطق او الرد والتعبير عن الاحاسيس

 فحين يصمت اللسان، لا يعني أننا لا نريد الخوض في الكلام ولا نبتغي التحدث، بل انا – قد – نختار الاختفاء وراء الصمت، لنقول للآخرين :  توقفوا فأنتم لا تعلمون  احوالنا، ولا حتى ما بنا. وقد نترك الحديث  ونهجره حال الغضب، أو عندما لا نجد للكلام اي مبرر ، فليس من الضروري أن نشرح او نفسر لما نحن صامتون، لانا مقتنعون بان الصمت في المواقف الصعبة لا يولد الا الاحترام، ويبعد الصراع والجدل الذي يولد التنافر والحقد والضغينة.

       فصمت القلوب حينما نتعدى مرحلة الكلام مع الاخر، ونختار التكلم مع ذواتنا ودواخلنا، ونُسْكِت  واحدا لنأخذ رأي الاخر ، وعندئذ نستكين الى الصمت بعيدا عن كل محاباة او رياء اجتماعي ،وعند ذلك يكون صمتنا ضجيجا  يطحن العظام ،وهو اكبر صفعة  نوجهها له / لها .

 وعندما نتألم فإننا  نطرق أبواب النسيان، ويصمت اللسان، وقد نحس أننا غير قادرين على تحمل أنفسنا، وعندئذ تبدأ الرحلة الداخلية نحو الأنا ، انها رحلة صمت القلوب، التي  تجعلنا نفهم وبشكل واضح ،أن ل اشيء في الخارج قادر على أن يمنحنا السكينة والطمأنينة. وهذا ما يدفغني الى ان أعترف بأن اللسان يجيد الصمت جيدا ، ويلغي قدرة الكلام ، رغم ان لنا خاصية اساسية في قلوبنا  تتحول الى كلمات لها أصوات عالية قد تزعجنا نحن كذلك ، ويبقى للصمت  صوت هو بحاجة إلى روح تفهمه وتستوعبه وتقدر لغته التي هي أبلغ  بكثير من كل الكلمات.

      واحيانا اجدني محبة وعاشقة لصمتي، لأنه يمنحني فرص تأمل الناس دون ادنى جهد ،وكأني لست معنية، لكن بين الصمت المقصود، والصمت المفروض تبقى هناك مسافة ومكانة نحن من نجعلها تليق بنا، فلن نجعل الصمت طريقنا ولا نسمح لأحد أن يسرق منا ثقتنا بالنفس، نصمت أحيانا حين نسمع كلمات جارحة من مقربين منا ، فنتجاهلها ولا نستعجل في الرد عليها ،ليس عجزا او خوفا ،وإنما لأننا ندين  بتربية خاصة تنهل من احواض المحبة الخالصة والقيم الكونية المشهود بها لأسرنا ،ودربتنا على كل ذلك ونحن في حضرة اسرنا  – اباء وازواج  – وكل ذلك اكسبنا طيبة قلب وسمو النفس ،وبعدنا عن الانهزامية والضعف . فالجوهرة لا تخجل من شدة بريقها، بل هي أفضل ميزة فيها، هنا يأتي العتاب صامتا، ليعمق وجعه ولوعته وتجاهله للآخر – بغض النظر عن موقعه وخانة تواجده – ، عتاب صامت في كل شيء، وقد يكون صمتي هو صديقي الذي كلما ساء المزاج كان أول من يحضرني ويقويني.

     ويسعدني ان اختم بالقول أن قمة الثقة هي ان تصمت عندما تبتلى بمحدودي الإدراك، او عندما يستهزأ بك الآخرين لأننا نعرف من نحن ومن هم ، وعندئذ نلجأ الى  الصمت لأنه يمنحنا التنزه في العقول، والنضج  الذي يتوج الأعمار، فليس كل شيء يستحق الاهتمام، نصمت كي لا نعطي الأمور أكثر من حجمها، وأحيانا لننقد احترامنا لأنفسنا أمام سوء الأخلاق وقد لا يعني القبول بل يعني أننا تعبنا من التفسير لعقول لا تفهم، وذلك تبعا للحكمة الملخصة في القول الدارجي (الهدرة مع الجاهل تفكع – بثلاثة نقط فوق الكاف – )،وبذلك يكون الصمت  متعة في زمن الثرثرة الفارغة.

فهناك من يصمت حتى لا يجرح غيره، وآخر لأنه يتألم وكلامه سيزيده ألما، وهناك من يعلم أن الكلام لن يفيد إذا تحدث.

وخلاصة القول فلكل كلمة تبعاتها وكذلك كل صمت والصامتات والصامتون يجيدون صناعة الصمت، ويبقى أول الصمت مجرد تسلية، أما أنا فقد أصبحت أحب الصمت، بل لقد ادمنته ، ولا أعلم هل ماتت كلماتي وفقدت بريقها ، أم انا التي مت  وانتهيت .

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *