الشماعية مدينة العجائب و الغرائب.
مصطفى فاكر
الشماعية مدينة أضحت تتسع و تولد و تكبر و تتمدد في كل الاتجاهات، تمد جدورها كشجرة فوق الأرض من كل ناحية… الأبنية و الجدران تتناسب و تتكاثر، ترفع هاماتها نحو عنان السماء في خيلاء.
حواشي المدينة ما فتئت تقضم تارة تحت جنح الليل طورا و طورا آخر تتآكل في بزوغ الشمس.
تبدو الشماعية كمدينة الأقزام بمشاريعها و سيرورتها التنموية، لكنها جيدة بمكارم سكانها، ثرية بأمجادها، بتراثها، بوداعتها، بصفاء جوها، بزحامها وزعيقها، غنية بمقاهيها، بمطاعمها بمتسوليها ومشرديها، ببائعيها المتجولين، وبشبابها العاطل، لكن بالمقابل تبدو الشماعية ضيقة صغيرة في عيون الكثير و الذين تطرق مسامعهم كل يوم حكايات حزينة عن بؤس مرافقها الصحية و عن شح وسائل نقلها العمومية، وندرة في حدائقها وارتفاع في منسوب ظواهر الانحراف واحتلال أملاكها العمومية و انعدام مراحيضها العمومية، وفوضى حركة السير والجولان واختناق شوارعها وممراتها.
وسواء أكبرت المدينة أو صغرت فإن الواقع الذي نقطع بصحته هو أن كل شيء فيها تغير و أصبحت مدينة العجائب و الغرائب، مدينة التناقضات والمفارقات، مدينة تشرع ذراعيها للجميع لا تلفظ أحدا حتى أنها صارت كخلية نحل تسع الجميع و تموج حتى الثمالة بأصناف ونماذج بشرية المختلفة أطيافه و حسناتهم ولهجاتهم. منهم من يرفل في النعيم و منهم من يشكو شظف العيش و ضنكها. صحيح أن المدينة اكتسى وجهها عوالم الإشراق والرفاهية و البذخ، إلا أن جسمها تلفه ملامح البؤس و الحرمان و الوجع و الشقاء، مدينة تغص بالفوارق الاجتماعية والعمرانية، مدينة تغص بالعاطلين و السماسرة و المتسولين والمتمسكنين والمنحرفين. إن للمدينة طوايا و أسرار لا تفصح عنها إلا لمن لا مها زمنا طويلا.
في بعض الأحيان يعتري نفسي الملل فأشعر أن الشماعية أضيق من أن تحمل جسمي النحيف وذلك بسبب الزحمة و تدافع المناكب، وجلبة الابلة وصياح البائعين وصوت أبواق السيارات و عوادمها وحشرجاتها التي تملأ الأذان و تقبض الأنفس، حينئذ لا أجد مفرا من أن أتجافى عن كل ذلك فأفزع إما إلى دروب المدينة القديمة لأسري عن نفسي بجولة أو أشق الطريق نحو سبخة زيما لأنعم بجلسة وادعة و أعجب بفتنة المشاهد الساحرة على امتداد أحواضها خاصة إذا صفا الأفق.
مدينة الشماعية كما وصفها لي أحد أصدقائي كانت في الماضي جنة الله في أرضه: ملعب الكولف، الغابة المترامية الأطراف، الورود المنتشرة في الحدائق، الأشجار المصطفة في نظام بديع، المياه الرقراقة والعذبة من كل النبات، كل ما فيها يسكن النفس فتنتشي وتسمو العين في انشراح إلى كل ما يتراءى لها من هضاب وسماء وماء، هنا يطوف البصر مشددا ويتطلع الفؤاد مأخوذا و تتيه النفس ذهولا.
أما الآن والعهدة على الراوي فكل ما في الشماعية ينفر ويعبس وحيثما وليت وجهك ينقلب إليك البصر خاسئا من فرط ما تعرفه من إهمال وتهميش ونكوص وجحود.