مناضل ليس كغيره من زمن التدافع السياسي

مناضل ليس كغيره من زمن التدافع السياسي
شارك

فؤاد الجعيدي

في الواقع ذهلت وأصبت بالدهشة، وأنا أصافح بباب بيتي ضيفا علي. شاب وسيم وأنيق، وحرص على ارتداء كمامته الزرقاء، لم يكن الرجل سوى أنس الدكالي، أعترف أني في هذه اللحظة  تذكرت الراحل ميمون حبريش، غير أن الفارق بينهما لم يكن سوى أن الماثل أمامي أبيض البشرة، والراحل كان قمحي اللون أشعث الشعر.

حاولت أن أبدد، فجائية اللقاء بالقول أن بيتي زاوية، وقمت قبل حضور الرفاق، بإحراق رائحة العود، ليكون المكان أشبه بمعبد قديم يسمح بالحكي، دون حواجز أو موانع والتي عادة ما تواجهنا في اللقاءات الأولى..

كان أنس، إنسانا هادئا وعلى تواضع لا نعرفه سوى في الأسر المغربية العريقة، التي تربت على القيم الأصيلة في المغاربة يعني ابن الأصول ومن لا أصل له لا خيرا يرجى منه.

وكان اللقاء، لتبادل الرأي في حزب التقدم والاشتراكية. لما انخرط في صفوفه آنس الدكالي، كنت على أبواب مغادرة التنظيم، حيث لم يعد فضاء ديمقراطيا، يسمح لنا بالاختلاف، ويسمح لما بتقدير الأمور وفق وجودنا الاجتماعي الذي يحدد وعينا.

آخر عهد لي بالتواجد الفعلي في الحزب، يوم سهرت على تنظيم ندوة وطنية حول التكوين المهني بالمغرب إلى أين ؟ بعدها عرفت مصائب لا قبل لي بها في مهنتي، ساهم فيها للأسف بعض الرفاق الأنذال، بالوشايات الكاذبة وكلفتني متاعب انتهت، بصراع لم يتوقف مع المدير العام إلى أن أحلت على التقاعد وأقصى ما تضررت منه حرماني من منحة التدبير الإداري التي تناهز 3000 درهم في الشهر، لكن عفتي غلبتني أن أجعل من هذا الضرر قضية تستحق الدفاع المشروع.

أنس لم يسبق لي معرفته كمسؤول في مناصب سامية، لكن الآن أعترف أني أمام إنسان بكل المقاييس، والقيم التي أنتجتها مدرسة حزب التقدم والاشتراكية، وجاء لنتبادل الرأي والمشورة فيما وجب علينا القيام به، لاسترداد بريق حزب التقدم والاشتراكية وجاذبيته، في الحياة السياسية والاجتماعية للمغاربة، وتجاوز التشنجات التي صارت عملة رائجة بين الرفاق وفي كل ربوع المملكة.

تحدثنا عن هوية الحزب، عن معنى الشيوعية والاشتراكية العلمية وكيف ساهم الرواد الأوائل، جيل المناضلين (الكارزما تيين) في بناء مدرسة اشتراكية، وعلى أسس مغربية؟ وكيف أن هذه المدرسة زاوجت بإبداع خلاق بين التراث الماركسي، كما صاغه ماركس وانجلز ولينين وغيرهم من رواد الحركة اليسارية في تاريخ الإنسانية، مع الاعتماد أيضا، وهذه هي العلامة الكبرى الفاصلة مع الأحزاب الشيوعية العربية، الاعتماد على القيم المتنورة للحضارة الإسلامية، وإشراقاتها في تاريخ البشرية ،واستحضار تراث شعبنا المغربي والأمازيغي واليهودي والإفريقي، واستحضار المؤسسة الملكية كطرف وشريك في الحقل السياسية، وكلما وقعت معها توافقات تاريخية، أنجزت المهام الكبرى، كما حدث مع الراحل محمد الخامس في ثورة الملك والشعب، وكما حدث مع وريث سره، الراحل الحسن الثاني في المسيرة الخضراء والتصدي للطروحات الانفصالية، وكان الحزب متميزا في ربطه بين تحرير التراب والانسان من الهيمنة والاستغلال.

كان أنس يصغي السمع، لما  خبرته أن الحزب كان يحرص على  تكوين مناضليه، بوحدات تكوينية يشرف عليها المنظر الأيديولوجي للحزب الراحل شمعون، وفيها يتعرف المناضل على مفهوم الطبقة الاجتماعية والتشكيلات الاجتماعية ومفهوم الحزب الطلائعي للطبقة العاملة والمهام المطروحة على المناضلين، في زمن الثورة الوطنية الديمقراطية، التي كنا نعتبرها المدخل والممهد للمجتمع الاشتراكي( مجتمع الكرامة والعدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، وإعطاء الديمقراطية مضامين في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية).

تساءلنا لماذا تمت التضحية بهذا الإرث الوطني؟ ومن يستفيد اليوم من الصراعات الثانوية؟ وكيف تم الالتفاف على العوامل الموضوعية لصالح النزعات الذاتية؟

كنت أمام مثقف من طراز مثقفي الحزب وجيل الرواد، واعتبرت بأن اللقاء، أتى وفي ظروف ما أحوجنا فيها، لفتح نقاش وطني هادئ ومنتج لفائض قيمة معرفية وفكرية ونضالية وللجهر بالحقائق دون لف ولا دوران.

أنصت للرفيق والأستاذ والباحث والمناضل الميداني الذي اختبر صعوبات إدارة الشأن العمومي، بكل الضغوطات والإكراهات وراكم خبرات غنية، الرفيق أنس وكنت في منتهى السعادة والرفاق الذين حضروا اللقاء، الذي جعلت منه مقاما للنبش في سير المناضلين ( علي يعته وعبد السلام بورقية وشعيب الريفي وعبد المجيد الذويب وشمعون ليفي والحاج اوبلا والقوقجي وعزيز بلال وبول باسكوني وميمون حبريش ومحمد فرحات ونذير يعته وعن مناضلي الخلايا في ناحية الدار البيضاء ودرب السلطان، ثم سطات ) وكنا مناضلين، أشداء لا نخشى لوم اللائمين في الجهر بالحق والحقيقة ورحماء بيننا نحرص على زيارة المريض ومواساة الرفاق في أقراحهم والوقوف بجانبهم في لحظات الفرح وكنا متشبعين حتى النخاع بالحرص على تمتين لحمة هذه العلاقات  نصنع منها، جسورا للتواصل الدائم لا نفرق في ذلك بين رفيق في الخلية ومسؤول في المكتب السياسي . إلى أن أتى على الرفاق زمن صاروا فيه خرافا ونعاجا وفريسة في لقاءات فقهاء الظلام ومن والاهم من الحركات المتأسلمة.

كان الأمر مرا، والخطب هولا، على هذا الارتماء والذي اكتشفت أن أسبابة العميقة، لا تعود لتوافقات سياسية، بقدر ما ارتبطت بمصالح ضيقة ولأشخاص معروفين ولهم تقدير من الرفاق لتراثهم النضالي، لكنهم لم يحسنوا المحافظة على استقلاليته.

يوم أن استقبل الراحل الحسن الثاني، بالقصر القيادة الوطنية لحزب التقدم والاشتراكية، أمام مزايدات حلفاء الكتلة الديمقراطية، اعتبرنا ذلك ، نصرا وتمجيدا لرفاقنا في تادلة وفي الدار البيضاء وفي لاسامير وفي خريبكة المدينة العمالية، لما حاصرتها القوى البوليسية في زمن الرصاص، ذهب الرفاق النقابيون وآزروا وتضامنوا مع عمال الفوسفاط في أقوى معركة وطنية، وانتصارا لشهدائنا عبد الكريم بن عبد الله ولمن مات في السجون ولمن ذاق سياط العذاب من اوفقير وجلاديه، في درب مولاي الشريف ومخفر الشرطة المركزي بالدار البيضاء وسجون الأطلس كما وقع لرفاقنا في آزرو.

لما جددنا معدات البيان اتهمنا، بأننا ناصرنا الولايات المتحدة الأمريكية وجاء الاتهام من طرف إخواننا في الاتحاد الاشتراكي وهم يعلمون أكثر من غيرهم أن رفيقنا علي يعته لم يقبل عطايا وهبات صدام حسين الذي أرسل مبعوثا شخصيا إلى شارع لاجيروند للتفاوض.

لما وقع الاختيار على نذير يعته للحضور بالبيت الأبيض ومحاورة الرئيس بيل كلينتون شعرنا بمتعة الاعتراف من الخصوم قبل الأشقاء، وظلت البيان تحصد سوق القراء والمتعاطفين مع عمود ولكن يقول الآخر.

ثم انهار علينا سقف البيت، في وزمن كانت كل مؤشراته تفيد أننا المؤهلين تاريخيا واجتماعيا وسياسيا لأن نبدع في الحماية الاجتماعية، ونموذج تنموي آخر مبني على الاعتراف للقوى العاملة بأنها الرأس مال الحقيقي كل نهضة وثورة إنتاجية ومعرفية في زمن اقتصاد المعرفية وهيمنة التكنولوجيات الجديدة للإعلام والتواصل.

استيقظ يا علي من ترابك الأبدي استيقظ يا بلال، و يا عبد المجيد و يا شمعون، استيقظوا أيها الموتى من قبوركم الأبدية، وعودوا أنى كنتم وكما كنتم، صار رفاقكم خرافا ونعاجا تحرسهم الذئاب وحملتهم إلى ذئاب ملتحة أخرى، فضاع المعدن الأصيل..

أومن حتى النخاع بأنه على رأس كل مائة سنة، يأتي أناس لا هم  بالرسل ولا هم بالأنبياء، ولكن على أيديهم تقضى حوائج الناس.

اللهم احشرنا مع هؤلاء ولا تجعل الدنيا همنا في منافعها الزائلة. واجعل منا خداما، للطبقة العاملة والفلاحين الفقر ولعموم جماهير شعبنا الكادح.. هذا الشعب العظيم الذي صرف علينا في مدارسه وجامعاته ومنحنا الوظائف لخدمته، لا لاستخدامه كما بات يفعل المتهافتون. والمشاؤون والرقاصون بين جهات المملكة  وراء كبيرهم الذي علمهم السحر والتحريف.

وأدركت أن أنس ليس من طينة من تجري به المنافع بقدر ما مناضل مغربي، يقدر الظروف والأوضاع العامة التي تمر منها البلاد، واكتسب من الوعي ما يدفع به لرفض العلاقات القائمة ويسعى بالنضال والقناعات الديمقراطية لتغييرها، وبذلك أرى فيه مناضلا شريفا، يستحق الدعم والمساندة في اختياره الوطني، وفي ظروف وطنية لم يعد فيها التبرير من مهام المناضلين بل التغيير، التغيير  الذي يمس الاختيارات في اقتصاد اجتماعي يراعي التوازنات الاجتماعية ولا يسعى فقط للتوازنات المالية التي أنتجت الهاشة وعمقت الفقر والفوارق الطبقية بين المغاربة إلى حدود لم تعد تطاق.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *