ما الذي يبقى من حزب التقدم والاشتراكية؟

ما الذي يبقى من حزب التقدم والاشتراكية؟
شارك

عبد الرحيم الوالي

الآن، بعد أن غادر حزب التقدم والاشتراكية حكومة العدالة والتنمية، وفك ارتباطه النشاز مع الحزب الظلامي، ولم تعد هناك مناصب يتهافت عليها المتهافتون، ولا امتيازات يهرول إليها المهرولون، يجوز – إن لم نقل إنه يجب! – طرح السؤال: ما الذي يبقى من حزب التقدم والاشتراكية؟

ولربما كان الجواب عن هذا السؤال يستدعي، منهجياً على الأقل، طرح سؤال آخر: ما الذي كانَهُ حزبُ التقدم والاشتراكية؟

ليس المقصود هنا استعراض تاريخ الحزب. فاليوم، في عصر محركات البحث العملاقة، صار بإمكان القارئ الولوج إلى معلومات من هذا القبيل، بلمسات قليلة على شاشة هاتفه الذكي. بل إن سؤالنا يتوخى الوقوف على جوهر الدور السياسي، الذي لعبه الحزب لصالح المغرب الذي نعيشه اليوم، أو لنقل (توخياً لمزيد من الدقة) إنه يروم الوقوف على دور الحزب، في لجم بعض النزعات التي كان من الممكن أن تفضي بالبلاد إلى الهاوية. ونعني هنا أساساً النزعة اليسارية المتطرفة من جهة، والنزعة الانفصالية من جهة أخرى، والنزعة الظلامية من جهة ثالثة.

تاريخيا، كان حزب التقدم والاشتراكية، من حيث هو امتداد للحزب الشيوعي المغربي، هو الحاضنة التي خرجت منها منظمة « إلى الأمام »، بنزوعها اليساري المتطرف، الساعي إلى الإطاحة بالملكية وإقامة نموذج « ثوري » على الشاكلة السوفخوزية – الكولخوزية. وحينما اختار الحزب التبرؤ من النزعة إياها، ومواجهتها فكريا وسياسيا، فلم يكن ذلك عن جُبْنٍ سياسي، ولا عن فتور همة نضالية، وإنما كان وعياً سياسياً قائما على التحليل العلمي للواقع، والتوقع العقلاني للمستقبل. فقد كان التحليل الرصين للمجتمع المغربي، وللمتغيرات الإقليمية والدولية، يقول بأن التغيير لا يتحقق بالمغامرات السياسية القائمة على الاندفاع، وإنما بالعمل النضالي الذي يصون المكتسبات، ويحصنها، ويسعى إلى تحقيق التراكم الضروري من خلال المؤسسات الديموقراطية، وبواسطة آلياتها، في إطار المشروعية والسلم الاجتماعي والاستقرار.

وحينما اختارت النزعة المتطرفة الاصطفاف إلى جانب الأطروحة الانفصالية، والقوى المعادية للمغرب، قرر حزب التقدم والاشتراكية أن يكون في الخطوط الأمامية للدفاع سياسيا ،عن الوحدة الترابية للبلاد، واستطاع أن يلعب دورا كبيرا لصالح القضية الوطنية من خلال علاقاته آنذاك مع الأحزاب الحاكمة، في الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية ودول المعسكر الشرقي، وكذا من خلال ارتباطاته مع مكونات حركة التحرر الوطني في جميع مناطق المعمور.

أما داخليا، فقد لعب الحزب عبر مناضليه، دورا لا يستهان به في الحركة النقابية، وفي الدفاع عن حقوق الإنسان، وعن حقوق المرأة المغربية، وساهم في تأطير العمال والفلاحين والطلبة والتلاميذ سياسياً، وفي إشاعة الوعي بالعمل السياسي والنقابي والحقوقي المشروع، والمسؤول، والبناء، بعيدا عن أي اندفاع أو تهور، جاعلا من نضاله ذاك، إلى جانب النساء خصوصا مشعلا يواجه به قوى الظلام التي تريد إبقاء المرأة تحت الحجر الذكوري.

وبكل ذلك – وغيره كثير – شكل الحزب مدرسة سياسية بكل أبعادها، تميزت دائما بالحضور النوعي في المحطات الحاسمة، وبالتكوين السياسي والأيديولوجي الصلب لمناضلاتها ومناضليها، وبالحفاظ على نظافة اليد إلا في الحالات القليلة التي كانت تحصل فيها بعض السلوكات الفردية، الشاذة والمعزولة والمحدودة، والتي كانت تتم إدانتها فوراً وبدون أدنى تردد.

نعم، هذا بعضٌ مما كانه حزب التقدم والاشتراكية. ولم يكن ذلك عنه بالغريب، مع وجود نخبة فكرية في صفوفه من حجم الراحل عزيز بلال، ومع وجود رجال سياسة من حجم الراحل عبد الله العياشي الذي أشرف على عمليات تجاوزت حدود المغرب، وبلغت فيتنام (مثل عملية آن ما) وكانت تربطه علاقات شخصية مع هو شي منه والجنرال جياب، وقس على هذا وذاك.

هذا، ما كان!

فما الذي هو اليوم كائن؟

اليوم – مع الأسف الشديد – يوجد الحزب تحت قيادة أمين عام ذهب إلى فرنسا مباشرة بعد حصوله على الباكالوريا. وعوض أن يدخل جامعة مثل السوربون أو ليون أو مونبوليي، أو غيرها من الجامعات الفرنسية ذات الصيت العالمي، دخل معهدا مغمورا تماما ل »الحضارات واللغات الشرقية ». وعوض أن يعود بشهادة دكتوراه عاد بشهادة لم يذكُرها يوما هو نفسُه، ولم تؤهله سوى للالتحاق بمكتب والده الترجمان. بمعنى آخر، فالرجل فشل في الحصول على شهادة ذات قيمة وهو في بلاد الأنوار، هناك حيث تفتقت عبقرية محمد أركون وطه حسين ورفاعة الطهطاوي وغيرهم من الكبار الذين قهروا ظروفهم الاجتماعية القاهرة وصاروا أسماء لامعة في سماوات الفكر والسياسة وما سواهما. وبعد هذا لم ينجح الرجل في العثور على منصب شغل في أي مؤسسة مغربية باستثناء مكتب والده.

لكنْ، حدث يوماً (لأسباب تحتاج إلى كثير من البحث والتنقيب) أن جاء الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية آنذاك، علي يعته، إلى مؤتمر « الشبيبة المغربية للتقدم والاشتراكية » سنة 1989، وبمعيته شاب اسمُه نبيل بنعبد الله. وهناك سخر الأمين العام، لتلك الأسباب التي تحتاج إلى كثير من البحث والتنقيب، كلَّ ثقله لفرض الشاب إياه على رأس المنظمة الشبابية لحزبه.

وبعد وفاة علي يعته جاء نفسُ الشاب ليجلس مكانه في إدارة جريدتي الحزب. ومرة أخرى لم ينجح الرجل في قيادة مشروع بناء إعلام حزبي.، بل انتهت مهمته في إدارة الجريدتين بإغراقهما في أزمة مالية خانقة.

وبعد كل هذا صار الرجل وزيرا، ثم صار سفيرا، ثم عاد ليصير وزيرا من جديد بعد أن فشل في البقاء سفيرا بسبب ما قيل إنه خصومة حدثت بين زوجته وزوجة وزير الخارجية آنذاك. وإذا كانت مهمته كسفير قد انتهت بمُلاسنة نسائية، حسب ما قيل، فإن مهمته كوزير انتهت بخروج غير مُشَرِّف بعد فضيحة مشروع « الحسيمة منارة المتوسط ». وقبل ذلك، وعوض أن ينال وساماً تقديرياً، كان نصيبُه بلاغاً من الديوان الملكي يصفه ب »التضليل السياسي » ويخصُّه بذلك دون الحزب الذي حرص البلاغ على تأكيد احترامه من طرف المؤسسة الملكية.

وهكذا خرج الأمين العام للحزب، السيد نبيل بنعبد الله، من كل ما خاضه من تجارب حكومية ودبلوماسية وإعلامية وسياسية ليعود مرة أخرى إلى مكتب والده الترجمان، حيث المنصبُ الوحيد الذي يمكن اعتبارُه مُستحقا له بالوراثة. أما الحزب فقد خرج من كل هذا منهكاً تماماً بعد أن فقد قاعدته، وانزوى مناضلوه الحقيقيون إلى ذواتهم ليتأملوا ما يحصل في صمت وحسرة، وهم يرون مدرسة سياسية بكاملها تنهار.

تقتضي أخلاق المسؤولية أن يقدم الفاشلون استقالتهم مشفوعة بالاعتذار، وأن يخضعوا بعد ذلك للمحاسبة والمساءلة. لكنَّ الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية، والذين معه، اختاروا طريق المتشبثين بالكراسي حدَّ التماهي معها. وبدل أن يبادر الأمين العام، الذي لازمَه الفشل على ما يبدو في كل ما ذكرناه، إلى تقديم استقالته واعتذاره، ويُعلن استعداده للمحاسبة والمساءلة، حذا حذو المستبدين. وحوَّل الحزب إلى ما يُشبه ثكنة ينصاع فيها الجميع لأوامر « الجنرال » الذي لم يخض أي حرب باستثناء الحرب التي أعلنها على الحزب نفسه، حين قاده إلى التحالف مع قوة ظلامية نكوصية، وأقصى مناضليه الحقيقيين وأرغمهم بطرق شتى على الرحيل، وأغرقه مقابل ذلك بالانتهازيين وقناصة الفرص والامتيازات.

واليوم، يمعن الأمين العام/الجنرال في الاستبداد فيتحرَّجُ من زيارة تبادلها شخصان ونُشرَت صورة لها في مواقع التواصل الاجتماعي، ويصدر الأوامر ل »الأتباع » بالابتعاد عن هذين الشخصين لأنهما بالنسبة له يمثلان « قُنبُلة ». وكأن كل ما تبقى مما كان حزب التقدم والاشتراكية جنرالٌ وهمي يخاف من قنبُلة لا وجود لها. لكن الأمر، لحسن الحظ، ليس كذلك. فاليوم، بعد أن صار الحزب خارج دائرة الحكومة، لم تعُد هناك مياهٌ عكرة تُغري السلاحف. ومثلما انسحب المناضلون حين تعكرت مياه النضال فإن المُتاجرين بالنضال يُولون الأدبار وهم يرون المياه إياها تصفو من جديد. وفي صفائها ما يسمح اليوم بانبعاث الفكرة من رمادها: حزبٌ متشبث بهويته، وفيٌ لنهجه، يؤطر العمال والفلاحين والمثقفين المتنورين ويُساهم في تحصين الجماهير من دعاوى الظلام مثلما ساهم بالأمس في تحصينها من دعاوى التطرف والمغامرة والانفصال.

الفكرة باقية وعلى « الجنرال » إعداد حقائبه قبل أن يفوته القطار.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *