فن العتاب

فن العتاب
شارك

ذة/ ثريا طهري

        العتاب هو فن التعامل مع الآخر، وهو في نفس الوقت خبرة وتعلم . وقد نجد ان هناك من يتبع « اتيكيت « العتاب ويجعلونه مدخلا  للتصافي والتصالح  المناسبين ،كما ان   هناك من يفتقر لهذا « الاتيكيت « ويعمد إلى المعاتبة بأسلوب أقل ما يقال عنه انه قاس.

      ان التعامل مع الآخر فن لا يحسنه الجميع ، ويبقى العتاب درجات وأساليب وطرائق تختلف حسب الأشخاص والمواقف.

      العتاب فيه محبة وطاقة إيجابية، عندما تسمعه من عزيز تحس بالحب والمودة، وفي مقابل ذلك يبقى اللوم إحساسا سلبيا يضع الآخر/ الأخرى في حالة دفاع عن النفس، والمودة عن الكرامة ،لأنه تكدير واساءة بالكلام المعنف، بل هو إنذار وفقدان للثقة بالنفس، واذا كان لابد من توقع الخطأ من الآخر،  فينبغي ان تكون المعاتبة مصحوبة بالهدوء والسكينة  وانتقاء الأسلوب المناسب ،لا الارتماء  في أحضان  الألفاظ الفجة ،وفرض النفس على الآخر، وعليه ينبغي ان لا نحاسب الشخص أو الاخر على أخطائه إن كان فعلا أمره  يهمنا ، بل ويمكن ان نعبر عن مشاعر الضيق التي حدثت بدواخلنا بسبب ما حدث بيننا ، وان نجعل العتاب مبنيا على الاحترام والمودة والتخفيف، بعيدا  عن اي ضرب من ضروب الإساءة.

        وتأسيسا على ما سبق  يبقى العتاب جزء من المحبة، ومنها يستمد قوته وصفاءه،  فمن تعاتبهم هم من تريد الاحتفاظ بهم، شريطة أن يكون العتاب لينا بعيدا عن التحقير أو الذم، وأن تلتمس لهم الأعذار ، وتفترض أن  لهم مبررات فهم خاطئ، وعلى ضوء كل  ذلك يأتي العتاب مع من نحبهم ولا نريد خسارتهم ، حرصا منا على بقاء الود القديم . ولكن عندما تفقد الرغبة في عتابهم، فاعلم أنك شيعت حبهم إلى مثواه الأخير، حتى وان كان ذلك مؤلما أو قاسيا،  ويبقى هنا الابتعاد  أرقى بكثير من اي عتاب، لان التوقف عن العتاب هو بداية النهاية ، بل هو بحد ذاته عتب.

        فبعض العلاقات قد تشوبها الكثير من الاختلافات او التباينات في وجهات النظر، الامر الذي يعرضها للكثير من الهزات ،ويولد الكثير من  المشاكل بين أطرافها، وعندئذ تكتشف أنك اهدرت وقتك ووضعت معروفا في غير أهله، وبذلك تقف على برودة الطرف الآخر ومجانيته ، وهنا ينبغي أن لا تعاتب فقط ، بل ينبغي أن تفعل كما يفعلون ، لأن التعامل بالمثل أكثر عدلا من العتاب ، وهو شرف لا يستحقه البعض – سواء كثر عددهم ام قل – ومن يحاول أن يخسرك  متعمدا، فسهل مأموريته وساعده /ها على ذلك ، وخلاصة القول ان السكوت يبقى أجمل عتاب، وهنا يستحضرني ما قاله ابن الرومي :

    وليس عتاب الناس نافعا       إذا لم يكن للمرء لب يعاتبه

        ونحن في خضم الحياة  ودروب المعيش اليومي نصادف الكثير  ممن  لا يستحقون العتاب، وهو ما يستوجب منا  أن نعفيهم من عتابنا ،كيفما كان وضعهم او مكانتهم المجتمعية ، وحتى خانة قرابتهم منا ،نعفيهم  من معاتباتنا، واحاديثنا واهتماماتنا، ونستريح من اعبائهم ،ونتفرغ لترتيب محطات ودروب  حياتنا من جديد ،بعد التخلص منهم/ منهن ونسكنهم صحاري الغربة والاغتراب، فهم غرباء وكأنهم ما وجدوا، وحتى وان كان أمر العتاب هذا لا يعني لهم شيئا ،فإنه للمعاتب الصلب يعني الكثير والكثير والكثير .

        وانا شخصيا توقفت عن العتاب(عدا من أحبهم ) فغربلت اموري وقناعاتي  – بحكم التجربة وعامل الزمن –  وتخليت عن خوض النقاشات التافهة ،ومحاربة الطواحين، ولم أعد أسأل عن  أسباب الغياب، ولن اجري أبدا وراء اي تسول مجاني ، ومع توالي الأيام والضربات ، أصبحت هادئة جدا، ولم أعد أحن أو أشتاق  إلا لمن هم أهل لذلك وابتعدت عن الانتظارات الطوباوية ،حتى لا أرهق نفسي بما لانفع فيه، فعرفت قيمتي من جديد، بعد ما أديت الثمن الغالي  لسذاجتي الناجمة عن طيبوبتي اللامتناهية وتربيتي على مبادئ القيم الكونية التي تتخذ من الكرامة المظلة الأساسية في النسيج العلائقي الذي يفترضه القرن الواحد بعد العشرين.

         لقد تعلمت أن أتعقل في كل محنة اخرج منها ، وتعلمت التروي والتؤدة –  حتى لا اقول البرود – وادركت حقيقة الكثير  مم عرفتهم/هن  في مسارات حياتي المتنوعة عبر الزمان والمكان ، وتشربت  الكثير من المبادئ والقيم الكونية بحكم احتكاكي الوازن بالمشبعين بحقوق الانسان والتربية على قيم المواطنة الحقة، فكان طبيعيا ان انهل من هذه الاحواض والمحطات ،الأمر الذي جعلني أنضج باستمرار واكتشف أني لا أريد أن اكون الأفضل ولا الأطيب، ولا التي ترمم وتبادر ولا أصلح أية كسور، وتخلصت من كل مجانية  فجة، بل ما عدت ذلك  الطرف الذي يصمت او يتجاوز او يستكين ، رغم  كل  المنعطفات  القاسية أو المحبطة  ،وذلك بحثا عن خارطة الطريق الاجبارية لمواصلة  المسير  في اتجاه الصفاء والفعل

 الحق ، من أجل الغد المشرق الوضاء الذي يتوخاه المواطن الحالم بالإشراق القريب.

        ومع مرور الزمن وتوالي محطات التعلم ،توصلت  إلى أن العتاب يأتي دون كلام، أو انشغال دائم أو تصرف يشبه التجاهل، فلا عتاب لمن استباح اذيتي، ومع ذلك تعلمت أن أغمض عيني واتغافل عن بعض الأمور كي أعيش بسعادة وأمنح الفرص الكثيرة جدا لأحبتي اللذين لا تستقيم حياتي الا بهم ومعهم ومن أجلهم – ليس إلا- وفي غير ذلك فإني لا أعاتب ولا أسأل ولا أهتم.

        وتعلمت أن لا ألتفت إلى الوراء، وأن ارنو دوما إلى الغد المضيء ، وأن ادلل نفسي ولا أسرق لحظة اهتمام من أحد، وتعلمت أن أبتسم ولا اكترث لأمر أحد – عدا احبتي ومن يدور في فلكي ،أو يتقاسم معي نفس الاهتمام والتطلع – لأني المرأة / المواطنة  بنكهة الرقي، فلا تكسرني الحياة بمختلف ضرباتها ومعيقاتها ،بل بهاأقوى ،ومن خلالها ابحث عن الرقي.

        وخلاصة القول، فانا  » الثريا  » التي لا تجيد لغة العتاب، وتتقن أساليب الحياة الصافية بعيدا عن أية مهانة، خدمة للمواطنة الحقة التي تفترضها الألفية الثالثة التي نعيشها.

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *