الجسر
عبد الرحيم كوديال/قاص من المغرب
كانت البساطة تلفه؛ وحبه لخرافه يفوق الخيال، فقد كانت محاوره الوحيد؛ والجميل أنها كانت تتقبله كما هو، ولا تعارضه البتة ؛ وبينهما نشأت ثقة فاقت كل الحدود…لذلك كان هو بدوره يعظمها وكان يحكي لها وهو على ضفة النهر، حيث جودة الكلأ، قصص كليلة ودمنة؛ واساطير » لافونتان » ومثيلاتها في أعمال شوقي وهو يتلذذ بإطراقها وهي تنصت إليه في هدوء وسكون… وحينما توشك الشمس على معانقة الأفق يطوي كتبه ويلفها في الخرقة المعهودة ويثبتها في قاع قرابه العتيق، ثم يشق بخرافه الطريق عائدا إلى البيت الذي لا يبلغه إلا بعد أن يبتلع الليل جلبة النهار.
كثيرا ما كان يأخذ خرافه أول النهار عند المنحدر؛ حيث يتمتع بمنظر العمال وهم منهمكون في بناء الجسر العظيم الذي تقرر إنشاؤه ليصل القرية بالمدينة؛ وكانت تمتد عيناه عبره نحو الأفق ليسهو سابحا في حلم لا تسترجعه منه إلا نعاجه التي تشرد بين الحين والحين؛ فيقوم إليها حانيا ليعود بها إليه ويستأنف قراءته « للخيميائي » عليها؛ ثم ما يلبث أن يعود ليختلي بنفسه من جديد يطيل النظر إلى العمال يتلذذ بأصوات طرقهم للحديد؛ وتردد أصواتهم التي تتعالى فاضحة حنقهم وغيظهم المخبوء! رغم ما يجده ظاهرا عليهم من خشونة ألفاظ وفضاضة كان يقبل ذلك منهم كالمولع؛ ويتشوق أن يحيا حياتهم كالمحروم.
وكان معجبا أشد الإعجاب بلباسهم الأزرق الموحد المتصل أعلاه بأسفله؛ وتوسل مرة أحدهم فسلمه إياه عند انتهاء الأشغال بالجسر، وكان ذلك اليوم بالنسبة إليه يوم سعد لا يتكرر.
في اليوم الذي أنهى فيه العمال تنصيب الجسر عاد هو بخرافه كالمعتاد وفي قلبه تتهامس الوعود؛ وأمضى الليل ساهرا شقه خلف الدار مسافرا يجوب الأحياء والدروب، وكانت نفسه التواقة إلى ما ترسمه الكتب تترنح قد فت القيد معصمها، وكانت القرية بهدوئها ورتابة إيقاعها تملأ صدره ضجرا وتضفي على ملامحه الكدرا…
في الغد؛ أخرج الخراف في موعده وبعدما تأكد من زاده والتحف جلبابه الفضفاض وتشمر بحزام قرابه سلك بها طريقه المعلوم وهو يحدث نفسه حديثا يكاد يجهر به، وما أن وصل حتى نزع عنه جلبابه وظهر لخرافه بلباس العمال ذاك وحفر حفرة ألقى فيها الجلباب وقراب الكتب وردم عليها التراب ووقف أمام الخراف التي أنكرته ووقفت مشدوهة رافعة رؤوسها تتأهب كالمستعدة لنطحه ، فعلم منها ذلك فطمأنها ببعض الكلمات وأدبر عنها يقصد الجسر، فما التفت إليها حتى بلغ منتصفه؛ فودعها بكفه باقتضاب وتابع سيره حتى اختفى وسط كومة من ضباب…
تسمرت الخراف في مكانها تحكي بثغائها المتقطع المتتالي ألف قول؛ وبعضها انبجست من عيونها دموعا اعترضها الذباب يخنق انفراطها!
