فصول العمر وتضاريسه
شرف حليمي
ونحن في بداية فصل الخريف الفلكي ، ماذا عن « خريف العمر « ؟
يرى الكاتب خورشيد حرفوش أن بعض الناس يفضلون فصل الخريف، ينتظرونه، يترقبونه، يبهجهم الخريف اكثر من الربيع، يجدون في تساقط الأوراق جمالاً، ربما اكثر جمالاً من تفتح الورود، ويجدون في الشجرة الجرداء وقاراً يوحي بجمال راق، وينتشون باللون الرمادي الذي تكتسي به الدنيا سماء وارضاً·· ويهزهم هواء ينبئ ببرودة قادمة، ويؤكدون ان للخريف رائحة ليس كمثلها شيء توحي بجلال وقدم وتاريخ، يجدون في كل ذلك معنى وقيمة وعمقاً، ويشملهم حزن رقيق هو أقرب الى السرور الهادئ يدفعهم للتأمل والتفكير والتدبر والادراك الباطني، وتراودهم الأفكار النبيلة على خالق الكون ومبدعه ويصحو لديهم حنين دفين للفن·
ولذلك لا ينزعج كثيرون وهم يتخطون الخمسين، ولا يشعرون بالانطفاء ولكن بالتوهج، ولا يقلقهم تجاعيد زاحفة أو شعيرات بيضاء متناثرة ربما بكثافة ولا ينشغلون بمقاومة الزمن والبحث عن وسائل للعودة الى الوراء، بل يرتشفون الحاضر بتلذذ غير معهود ويستمتعون بخواطر والهامات ونبضات وجدان غير مسبوقة، وتشملهم همة وحماس ونشاط هادف واع، وتصبح قيمة الزمن اعلى واذا بالساعة الواحدة ايجازاً وامتاعاً تساوي يوماً من الزمن غير البعيد، وفي هذه الرحلة يستطيعون بالعين المجردة ان يروا الكرة الأرضية وهي معلقة في فضاء الكون، ويدركوا علاقتها بالكواكب والمجرات الأخرى، وينفذوا بأبصارهم وأفكارهم ووجدانهم الى اعمق اعماق الكون في محاولة لادراك سر الوجود·
في خريف العمر تتراجع القوى الجسدية، رويدا رويدا تراجعاً غير محسوس وغير مدرك، وتتزايد قوى أخرى، القوى المعبرة حقاً عن معنى الانسان، وأهمها قوة الروح، فتزداد شفافية واحاطة والماماً ونفاذاً وادراكاً ونقاء وكشفاً، واذا بقوة الروح تمنح الجسد المتراجع قوة من نوع جديد تزيد من روعة الأحاسيس وتجاوبها ويكتسي الوجه وقاراً يوحي بجمال اخاذ ناضج من عقل ناضج·
وقليل من ينزعجون، يصيبهم قلق وغم، يتحسرون، ينظرون بأسف الى الشباب اليانع من حولهم بل ويحسدون، يهرعون الى الأصباغ والألوان والمقويات لعلهم يسرقون الزمن . ينشغلون بالكامل بأجسادهم، فتنطفئ أرواحهم ويدخلون في سباق هم الخاسرون فيه حتماً، ويزداد القلق وتزداد الكآبة، فيزداد التهور والاندفاع والانغماس واللهث وراء لذات فورية مؤقتة تفشل في إرواء الجسد المتراجع·
العلم يطلق على هذه المرحلة سن اليأس عند الرجال وتبدأ حول الخمسين في مقابل سن اليأس عند المرأة والتي تبدأ حوالي الخامسة والاربعين·
وهي مرحلة تراجع هورموني وتساقط في الخلايا، فيخفت وهج الرغبة، تتواضع رعونة النشاط والهمة، وتبطؤ الاستجابة ويصحب ذلك تغيرات واضحة في الملامح والشكل والقوة والحركة، ويصاحب ذلك تغيرات في النفس فتغشاها كآبة وزهو وفتور وانطفاء وتراجع وانهزام وحسرة وأسى، وهي نفس المعاني التي يمكن ان نستوحيها بالنظر الى اشجار الخريف وخاصة اذا كنا من هذا النوع من الناس الذي يزعجهم الخريف، اما الذين يحبون الخريف، فإنهم لايزالون يرون الشجرة واقفة منتصبة قوية، جذورها ممتدة في الأرض وساقها مرتفعة الى السماء، ومازالت تجري في شرايينها المياه حاملة عناصر الحياة من الأرض الى خلاياها ، ولايزالون يرون فيها جمالاً من نوع خاص بعد ذبول أوراقها·
اذاً ، الأمر يتوقف على كيف ننظر الى الاشياء؟ كيف نفهم الحياة؟ كيف ندرك المعنى؟ كيف نرى بانوراما الحياة منذ لحظة الميلاد الى لحظة الرحيل؟ وما حكمة المراحل التي يمر بها كل مخلوق حي من ضعف الى قوة الى ضعف الى زوال؟
بعض الناس يزعجهم التراجع الجسدي فيشغلهم عن تعاظم في قوى اخرى داخلهم ويلهيهم عن متع اخرى لا يمكن ادراكها الا في هذه المرحلة من العمر·
البعض في هذه المرحلة من العمر يتصورون ان بإمكانهم خداع الزمن فيتشبهون بشباب العصر في ملبسهم وسلوكهم، ثم يتصورون انه بإمكانهم البدء من جديد، أي وكأنهم يبدأون حياتهم فيتزوجون بمن تصغرهم في السن كثيراً ويدخلون في سباق ومنافسة مرهقة مضنية ويعيشون الوهم، وبذلك تضيع منهم متعة الطمأنينة مع شريك العمر ورفيق رحلة الحياة حيث كبرا معاً وحصدا معاً، وحزنا معاً، وادخرا رصيداً هائلاً في بنك الذكريات ينفقان منه وهما يتدثران ملتصقين حول مدفأة الشتاء، وبذلك تفوت عليهم فرص الاستمتاع بالأبناء وقد كبروا وبفرض قفز الاحصاء من حولهم فبذلك يفقدون فرص التمتع بالشجرة الكبيرة التي بدآها معاً وأثمرت من الأولاد والبنات والأحفاد ما أثمرت·
والاكتئاب يداهم هؤلاء الذين يتحسرون بشدة على الشباب الفائق، ويسمى اكتئاب سن اليأس، وهو اكتئاب مرضي يحتاج الى علاج طبي نفسي حيث الشعور بالحزن واليأس والقنوط وعدم الرغبة في الحياة والأرق وضعف الشهية مع زيادة في الوهن الجسدي أو قد تكثر الشكاوى الجسدية دون أن يكون لها اساس عضوي، حالة من توهم المرض دون ان يكون هناك مرض·
إنها فصول الحياة بتضاريسها ومناخاتها تتوالى …