المأزق الفرنسي.

د.خالد فتحي
الانتحار نوعان: الأول مادي كأن يلقي شخص بنفسه من شاهق مثلا، والثاني معنوي، كأن يلقي، على طريقة بايرو، خطابا في الجمعية الوطنية يطلب منها منح الثقة وهو يعلم ان الاغلبية تطلب جلده.
ربما رئيس الحكومة الفرنسي هذا شخص ارعن سياسيا، او رجل أصابته لعنة امرؤ القيس، فرضي من الغنيمة بالإياب، أو لربما أكثر من ذلك، أنه مصاب بمتلازمة عشق الموت فوق خشبة المسرح على مرأى من الجمهور، ولذلك قد لبس في لحظاته الأخيرة ثوب الواعظ الناصح، الذي لا يحذر الفرنسيين من سوء العاقبة هناك في الآخرة ولكن يحذرهم منها هنا في هذه الدنيا العاجلة ففرنسا، كما شخص مرضها، مرت للسرعة للقصوى في الانحدار نحو قعر الهاوية الاقتصادية. لقد أفلست باختصار . صارت يونان أخرى، ولكنها يونان قد تودي بكل الاتحاد الاوربي معها.
من عادة المصيبة الاقتصادية، ان تستدعي معها المصيبة السياسية، وبعدهما معا، تحل القارعة الاجتماعية، وقد تتبعهم جميعا المعضلة الامنية.
الذي يستمع ل60 مليون محلل فرنسي، وهم ينحون باللائمة على ديمقراطيتهم المريضة التي خذلتهم، يشعر ان فرنسا صارت على شفا ربيع فرنسي صاخب وصعب.
فهل يا ترى يكون بايرو تلك البجعة السوداء التي تجلب معها هذه العاصفة القادمة ؟،وهل يا ترى يكون ماكرون اول رئيس فرنسي تطيح به احتجاجات شعبية بعد الثورة الفرنسية على غرار ما وقع للويس السادس عشر؟
مثل هذه الاستطرادات التخيلية او التوقيعية تدل ان فرنسا توجد بالتأكيد أمام سيناريوهات عديدة أحلاها علقم، أولها
حل الجمعية الوطنية للمرة الثانية، في العهدة الثانية لماكرون وتنظيم انتخابات مبكرة، لكن عيب هذا الخيار أن فرنسا قد تلدغ منه مرتين ، اذ قد يفاقم الأزمة ،ولا يحلها. الفرنسيون قد سئموا هذا الاقتراع الذي لا يؤدي الى استقرار وقد لا يتوجهون للصناديق، حتى إن توجهوا، سيفرزون نفس الخريطة السياسية السابقة.
. ثانيها، تعيين حكومة جديدة تواصل النهج الماكروني في الحكم ؟،وهذا يعني الاستمرار على نفس العلاج غير الفعال، أو يلجأ ماكرون لرمي مفاتيح قصر ماتنيون في وجه اليسار « المنقسم »، ويتركه يتحمل معه وزر الأزمة من خلال حكومة تعايش؟
ولكن حكومة التعايش هاته، هي نفسها الدليل الأكبر على استمرار سوء الحال، لأنها دائما ما تحمل تناقضات قاتلة، وقد يفشلها الشارع في مدة اقصر بكثير مما استغرقه بايرو .
اما ثالث السناريوهات، فهو عودة السترات الصفراء واندلاع المظاهرات، و مكافحتها مرة أخرى بالقنابل المسيلة للدموع بجادة الشانزليزية، حيث سيخرج المهمشون المقصيون الذين يلعنون برامج الحكومات المتعاقبة التي لا تعبأ بهم ، وينزلون جموعا هادرة تهتف ضد الرئيس، و ضد اليسار، واليمين، ووسط اليسار ،ووسط اليمين، ووسط الوسط؟
وهنا يصبح تطرف الاحتجاجات، وتطورها الى ما لا تحمد عقباه امرا منتظرا جدا.
بايرو الذي يقف موقف غير العابئ بمصيره، لا يبدو لي متهورا، بقدر ما يبدو لي طالبا « للشهادة » يوم 8 سبتمبر، جادا في تجسيد هذه » البطولة الحلاجية » ذات النوع الخاص : الذهاب الى مقصلة التصويت النيابي بعينين مفتوحتين.
لقد اطلع على ما في الطنجرة لعله يقول في نفسه، أنه غدا، ومهما انتقدوه اليوم،، سيتذكرون بعد ان يقيلوه، انه كان زرقاء اليمامة التي لم يصدقها الفرنسيون.
هو، ودون شك، لا يخشى هذه النهاية » الدرامية » ويسعى لها ، هو يعي أن الكل مسؤول عما انتهت اليه فرنسا ،ويعرف فوق ذلك ان لا أحد يمتلك وصفة سحرية للخلاص لا يمينا ولا يسارا.
الأزمة الاقتصادية الفرنسية ليست مجرد أرقام سلبية في الناتج الوطني او الدين العام، انها أعمق بكثير. انها تآكل الثقة الشعبية في النخبة السياسية برمتها، وفي بنية الدولة ذاتها. ان فرنسا لتخسر الان كنموذج حضاري وكنموذج حكم خسرانا مريعا: الطبقة الوسطى محطمة مهانة، محبطة، لا يلتفت لها، وهي تتضاءل حكومة بعد حكومة. والطبقة الدنيا الهشة تعاني حالة إلغاء وجودي، بينما الطبقة السياسية لاهية بصراعاتها، تقبع في أبراجها العاجية، تمارس الجدل البيزنطي، وتناقر كالديكة فيما بينها. إنه الانفصال التام بين الدولة وناسها، وبين السياسة وأحلام المواطنين.
واقع الحال يشير الى ان الجمهورية الخامسة قد لفظت أنفاسها فهي لا تمر بأزمة تقنية، ولا تعاني من حمى عابرة بل قد فقدت شرعية استمرارها، فحين يفض البرلمان في ربيعه الاول او الثاني، وتصبح الحكومة كالريشة في مرمى الأهواء الحزبية، ويعود الرئيس معدم القاعدة الشعبية فإن النظام السياسي يكون قد دخل مرحلة النزع الأخير ،وتكون ديمقراطيته قد ماتت قبله سريريا، ماتت ، وان كانت لاتزال حريصة على تمثيل المظاهر. ذلك ان الديمقراطية يجب أيضا ان تمنح طحينا لشعوبها، لا ان تملأ آذانهم جعجعة وضجيجا فقط.
فرنسا الآن تعيش قلقا وجوديا والفرنسيون صاروا يعبرون عن السياسة بوصفها مرادفا اللاجدوى . ولذلك فان الأيام الصعبة على الأبواب. لقد ولى الرخاء الفرنسي، و لربما ان قومة السترات الصفراء الاولى ما كانت الا الهزة الممهدة للزلزال الحقيقي الذي ينتظر منذ 2018، فعندما تغيب اللغة السياسية الموحدة، و ينتفى « المعنى الجمهوري » ، لابد ان يظهر الغضب الساطع ،كما غنت فيروز، سواء في الشارع، او الضواحي، و سواء جاء من الطلبة، او العمال ،او المهاجرين.. او لعله الان سيحمل على ظهور غالبية الفرنسيين الذين ما عادوا يتعرفون على أنفسهم في هذه الجمهورية.
فهل يكون ماكرون اول رئيس يسقطه الربيع؟ كل شيء ممكن. الفرنسيون بدأوا يهمسون لبعضهم البعض بذلك ،بل هناك سياسيون يعملون جهارا لأجل ان لا ينهي هذا الرئيس ولايته ويخرج من الباب الضيق.
لكن فرنسا ليست في ازمة اقتصادية او سياسية فقط. داء العطب فيها قديم . ولذلك هي في الحقيقة في أزمة هوية.
عليها الآن ان لا تنسى وهي تضع التدابير الشديدة، ان تجيب عن أسئلة كثيرة اهمها، .ما معني ان تكون فرنسيا الآن؟ وما العلمانية في زمن التعدد؟ ومن يحكم فرنسا بالفعل؟ ومن يمثل فيها من؟
وما مصير الجمهورية الخامسة؟
وكيف يجب أن تكون الجمهورية السادسة؟ وما الطريق الى هذه الجمهورية المنقذة؟ وكيف تكون هذه الطريق سلاما لا هلاكا؟ وأخيرا هل شعار حرية مساواة إخاء لازال ساريا ؟؟.
كل هذه الأسئلة لم تعد ترفا فكريا، انها لتنفجر كالقنابل في وجوه الساسة وفي الشوارع، والجامعات، والاعلام، وفي كل مؤسسات المجتمع. لقد قرعت الحقيقة طبولها.
فلا مفر من مواجهة الازمة ولكن بشكل مختلف، ولا فائدة من تجاهل أصوات الهامش. لابد من إعادة توضيب كل من البيت الفرنسي والديمقراطية الفرنسية والنموذج الحضاري الفرنسي ككل لترميم صورة فرنسا. اذ هي لم تتراجع داخليا فحسب، بل وخارجيا كذلك.
لكن من رحم الازمات تتم دائما الولادات الجديدة. ولذلك لابد ان يعاد بناء الدولة على أسس جديدة بعقد اجتماعي أكثر عدلا ومساواة وبجمهورية تكون للنخب والمهمشين على السواء.
على فرنسا ان تقوم بالنقد الذاتي، وان تنظر هل لاتزال على هدى فلسفة الانوار الصافية الاولى؟،وتسرع بالإصلاح او حتى بالثورة على نفسها… فالمطلوب ان تجد حلا جذريا لأزمتها، لا ان تتعود إدارتها وتدويرها ان تتذكر في كل هذا قولة نيتشه الشهيرة: عندما تحدق في الهاوية طويلا تبدأ الهاوية بالتحديق فيك.
اي ان على فرنسا ان تبدع خلاصها بأقصى سرعة ممكن وبأكبر قدر من العزم والاخلاص والتصميم من كل الفرنسيين، حتى لا تسحبهم الهاوية إليها، فيغرقون جميعا في العبث والفوضى.