اغتيال السؤال والمنفى في «الأشجار واغتيال مرزوق»
ملخّص
بقلم: محمد السميري
تتناول هذه الدراسة رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» لعبد الرحمن منيف بوصفها نصًا تأسيسيًا في تفكيك العلاقة المأزومة بين المثقف والسلطة في السياق العربي الحديث، ونصًا إشكاليًا يقدّم نقدًا مزدوجًا للاستبداد السياسي ولتحوّل اليسار العربي من مشروع تحرّري إلى خطاب سلطوي مغلق. تنطلق الدراسة من فرضية أن الاغتيال في الرواية ليس حدثًا أمنيًا، بل فعلًا رمزيًا يستهدف الوعي والسؤال والذاكرة، وأن المنفى لا يُختزل في الجغرافيا بل يتجسّد شرطًا وجوديًا دائمًا للمثقف النقدي.
______________
تحتلّ رواية «الأشجار واغتيال مرزوق» موقعًا فريدًا في مسار عبد الرحمن منيف، ليس لأنها من أوائل نصوصه الروائية فحسب، بل لأنها تكشف، في مرحلة مبكّرة نسبيًا، عن جوهر مشروعه الفكري القائم على مساءلة السلطة، وتفكيك أوهام الحداثة السياسية العربية، وفضح آليات القمع التي لا تعمل بالقوة وحدها، بل عبر إعادة إنتاج الوعي ذاته. فالرواية، الصادرة عام 1973، تأتي في لحظة تاريخية مثقلة بالخيبات، حيث كانت أنظمة ما بعد الاستقلال قد استقرّت بوصفها سلطات مكتملة، بينما كانت الشعارات الثورية التي بشّرت بالحرية والوحدة والعدالة الاجتماعية قد تحوّلت إلى أدوات إقصاء ومصادرة.
لا يُقدَّم المنفى في الرواية بوصفه نتيجة مباشرة للقمع فقط، بل بوصفه حالة بنيوية تلازم الشخصية حتى بعد عودتها. فمرزوق، العائد من المنفى، لا يعود إلى وطن يستعيده، بل إلى فضاء فقد ذاكرته، أو أُجبر على التخلّي عنها. يقول السارد: «عاد مرزوق ليجد الشوارع كما هي، لكن الوجوه لم تعد تعرفه، أو لعلّها تعمّدت ألّا تعرفه» ¹. في هذا التوتّر بين ثبات المكان وتحوّل البشر تتكشّف إحدى أكثر أفكار الرواية كثافة: الوطن الذي لا يتذكّر أبناءه وطنٌ يُنتج منفى داخليًا أشدّ قسوة من النفي الخارجي.
بهذا المعنى، يلتقي منيف مع ما صاغه إدوارد سعيد لاحقًا حول المنفى بوصفه حالة وعي لا تنتهي بالعودة الجغرافية، بل قد تتفاقم معها، إذ يصبح المنفي أكثر هشاشة حين يعود إلى وطن لم يعد يعترف به². فمرزوق لا يُقصى لأنه معارض صريح، بل لأنه يحمل ذاكرة لا تتوافق مع السردية الرسمية الجديدة، ولأنه يصرّ على طرح الأسئلة في زمن قرّرت فيه السلطة أن الأسئلة ترفٌ خطِر.
مرزوق، في هذا السياق، ليس بطلًا تقليديًا ولا مناضلًا أسطوريًا، بل مثقفًا نقديًا مأزومًا، ينتمي إلى جيل آمن بالتحرّر، وشارك في نضالاته من الخارج، ثم عاد ليكتشف أن المرحلة التي ضحّى من أجلها قد أعادت تعريف ذاتها دون أن تستشيره. في أحد المقاطع الدالّة يقول السارد: «قالوا إن مرزوق تغيّر، وإن أفكاره لم تعد صالحة للمرحلة، ولم يسأله أحد: متى تغيّرت المرحلة؟» ³. تكشف هذه الجملة البسيطة في تركيبها، العميقة في دلالتها، منطق السلطة حين تتحوّل الثورة إلى نظام مغلق، يحتكر تعريف الزمن، ويصادر حقّ الأفراد في مساءلته.
هنا يصبح استدعاء مفهوم الهيمنة الثقافية لدى أنطونيو غرامشي ضروريًا، إذ لا تكتفي السلطة، وفق هذا التصوّر، بالقمع المباشر، بل تعمل على إنتاج خطاب يجعل الإقصاء يبدو ضرورة تاريخية، ويحوّل المختلف إلى خطر على الجماعة⁴. وبهذا المعنى، لا يُغتال مرزوق لأنه خائن، بل لأنه لم يتماهَ مع الخطاب المهيمن، ولأنه ظلّ وفيًّا لفكرة الحرية بوصفها قيمة إنسانية لا شعارًا مرحليًا.
تبلغ الرواية ذروة كثافتها الرمزية عبر حضور الأشجار، التي تتجاوز كونها عنصرًا طبيعيًا لتغدو استعارة للذاكرة الجماعية. يقول مرزوق: «هذه الأشجار كانت هنا قبلنا، وستبقى بعدنا، لكنهم قطعوا التي كانت تعرفنا، وزرعوا غيرها» ⁵. لا يحيل هذا المشهد إلى تغيير عمراني بريء، بل إلى فعل اقتلاعي يوازي ما تمارسه السلطة على مستوى الذاكرة والتاريخ. فكما تُقطع الأشجار القديمة، تُقتلع السرديات غير المرغوب فيها، ويُعاد تشكيل الماضي بما يخدم الحاضر السلطوي.
إن البنية السردية للرواية، القائمة على التقطيع الزمني وتيار الوعي، تعكس هذا الصراع بين الذاكرة والنسيان. فالزمن ليس خطيًا، بل متشظّيًا، يعود فيه الماضي على نحو قسري، كأنه يرفض أن يُدفن. يقول السارد: «كان الماضي يجيء فجأة، بلا استئذان، كأنه يريد أن يذكّره بما حاول الجميع نسيانه» ⁶. هنا، تتحوّل الذاكرة إلى فعل مقاومة، وتغدو الكتابة نفسها ممارسة مضادّة للهيمنة.
لا تنفصل هذه القراءة عن نقد الرواية لتحوّلات اليسار العربي، الذي يظهر في النص لا بوصفه خصمًا خارجيًا، بل بوصفه تجربة مأزومة من الداخل. فاليسار الذي بشّر بالتحرّر تحوّل، في كثير من تجاربه السلطوية، إلى جهاز أيديولوجي يعادي السؤال باسم المرحلة، ويقمع الفرد باسم الجماعة. في اللحظات السابقة لاغتيال مرزوق، نقرأ: «لم يكن خائفًا، كان فقط متعبًا، كأن السؤال أثقل من الجسد» ⁷. الاغتيال هنا ليس قتلًا للجسد بقدر ما هو إسكات للسؤال النقدي، أي اغتيال للوظيفة التاريخية للمثقف.
بهذا المعنى، لا تكتب الرواية ضد اليسار بوصفه حلمًا إنسانيًا، بل ضد تحوّله إلى سلطة، وضد خيانته لقيمه التأسيسية. وهذا ما يجعل النص أقرب إلى نقد أخلاقي–سياسي من الداخل، لا إلى خطاب مضاد أيديولوجيًا.
وفي الخاتمة، يتيح لنا توسيع أفق القراءة مقارنة «الأشجار واغتيال مرزوق» بمشروع «مدن الملح» اللاحق، حيث ينتقل منيف من اغتيال المثقف الفرد إلى اغتيال مجتمع بأكمله عبر النفط والحداثة القسرية. فإذا كان مرزوق يُغتال لأنه يحمل ذاكرة وسؤالًا، فإن شخصيات «مدن الملح» تُمحى لأنها لا تملك حتى لغة السؤال. في العملين معًا، تتكرّر المأساة ذاتها: سلطة تُعيد تشكيل الإنسان بما يخدم استمرارها، وتعتبر الذاكرة عبئًا يجب التخلص منه. غير أن «الأشجار واغتيال مرزوق» تظلّ النصّ الأكثر كثافة على مستوى المأساة الفردية، حيث يُختزل المشروع النهضوي العربي في جسد مثقف متعب، يُغتال لأنه تذكّر أكثر مما ينبغي.
تخلص هذه الدراسة إلى أن رواية منيف لا تزال راهنة، لأنها لا ترثي فشلًا تاريخيًا فحسب، بل تحذّر من إعادة إنتاجه. فهي تذكّرنا بأن أخطر أشكال القمع ليست تلك التي تستهدف الأجساد، بل تلك التي تغتال السؤال، وتحوّل الذاكرة إلى جريمة.
______________
الهوامش
- عبد الرحمن منيف، الأشجار واغتيال مرزوق (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973)، 17.
- إدوارد سعيد، تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر ديب (بيروت: دار الآداب، 2006)، 45–47.
- منيف، الأشجار واغتيال مرزوق، 42.
- مختارات من دفاتر السجن. ترجمة فواز طرابلسي.
بيروت: دار الفارابي، .2011. 12–13
- منيف، الأشجار واغتيال مرزوق، 88.
- المصدر نفسه، 101.
- المصدر نفسه، 129.
______________
المراجع
- عبد الرحمن منيف. الأشجار واغتيال مرزوق. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1973.
- فيصل دراج. الرواية وتأويل التاريخ. بيروت: المركز الثقافي العربي.
- يمنى العيد. تقنيات السرد الروائي. بيروت: دار العودة.
- ادوارد سعيد. تأملات حول المنفى. ترجمة ثائر ديب. بيروت: دار الآداب.
- أنطونيو غرامشي. مختارات من دفاتر السجن. ترجمة فواز طرابلسي.
بيروت: دار الفارابي، 2011.
