بين البورجوازية الوطنية واللاّوطنية
د. سعيد ألعنزي تاشفين
رغم كل الانتقادات التي استهدفت البورجوازية على طول تاريخ أروبا منذ الأزمنة الحديثة لحظة اندحار الفيودالية ومعها سلطة التسلط الكنسي، إلا أن كل التحولات الحاصلة منذ الاكتشافات الجغرافية الكبرى، نحو الحركة الإنسية وانبعاث النهضة الأوروبية بمدن جنوة والبندقية وفلورنسا، إلى الإصلاح الديني مع لوتر وأنجليكان وكالفان الذي أعاد ترتيب العلاقات بين الارض والسماء، نحو ولادة الأنوار كلحظة فكرية مفصلية بفرنسا على يد مونتسكيو وفولتير و ديدرو وروسو، وبإنجلترا مع جون لوك وتوماس هوبز، إلى الثورة الفرنسية التي شكلت بداية التاريخ المعاصر؛ كانت بفضل الطبقة البورجوازية التي انتزعت السلطة، بعد صراع مرير دام ردحا من الزمان، من بين مخالب الاقطاع/الكنيسة ومنحتها لنفسها في سياق انبلاج حضارة غربية جديدة قوامها الحداثة .
الفرق إذن شاسع بين البورجوازية الوطنية كما كان حينئذ بأروبا وفق ولادة طبيعية ساهم فيها زمرة الفلاسفة منذ رني ديكارت مرورا بعالمين جليلين كوبيرنك وكاليلو، نحو سبينوزا، إلى هيغل وماركس. والبورجوازية اللاّوطنية التي ولدت من رحم الفرز الطبقي الناجم عن تداعيات التقسيم الكولونيالي للثروة من خلال استغلال انتهازي للأزمات لصالح مراكمة الريع. ففي أروبا، ومن دون شك، كانت كل التحولات الحاصلة نحو الحداثة والتنوير بفضل الطبقة البورجوازية المالكة للمال والعلم و الثائرة ضد كل تمظهرات الفكر القروسطي، على نقيض آليات استصدار فرز طبقي معطوب في مجتمعات ما سماه ماركس بمجتمعات نمط الإنتاج الأسيوي بمحاذاة النظم العبدية بعد المشاعة البدائية. و إذا كانت البورجوازية الوطنية تنشغل بقضايا الدمقرطة والتنوير والحقوق والحريات، فإن البورجوازية اللاّوطنية تكتفي باستنزاف ثروات الأوطان خدمة لنهم الجشع الذاتي المعادي لدينامية الدمقرطة في تقسيم الخيرات المادية والرمزية. وكتابات سمير أمين ومحمود إسماعيل وماكسيم رودنسون والمهدي عامل والعفيف الأخضر وغيرهم من فحول التموقع في خانة اليسار الفكري تليق بالمراجعة النظرية لتعميق الفهم في منطق تشكّل الفرز الطبقي ببلدان التبعية للميتروبول الكولونيالي ضمن تداولية الرأسمالية وممارستها للإخضاع .
و ما يهمني هو أنا البورجوازية الوطنية تاريخيا هي التي استثمرت لصالح تحرير العقل كمدخل منهجي لمعانقة نظيمة الحداثة، بيد أن البورجوازية اللاّوطنية تستثمر في تحريك النعرات القبلية و الخصوصيات السوسيو – إثنية والتفسيرات العقائدية الجامدة داخل بوتقة الفقه السلطوي السياسي والديني من أجل تسييد الجهل المركّب بما يضمن هيمنتها على سوق الرّعاع والغوغاء والقطيع. فالبورجوازية الوطنية تراهن على الفرد الحر المتحرّر من كل قيود الجماعة الأرثوذكسية والمؤمن بقدرة الذات على تفجير طاقاتها بما يخدم قضايا العقل ويعانق منطق اشتغال التاريخانية كما ساهمت فيها كل الإمدادات الإنسانية بتراكم متنوع ونسقي، في حين تراهن البورجوازية اللاّوطنية على دوغمائيات الجماعة وعلى كل نتاجات الدوكسا بما يضمن استئساد الغيبوبة الفكرية الضامنة لسيطرة شرذمة من الأثرياء على حساب مقدرات الشعوب بتوظيف أدوات التجهيل والتدجين خدمة لنمطيات الحتمية الاجتماعية عموديا. وبُناء عليه لا يمكن المراهنة على البورجوازية اللاّوطنية في إرساء لبنات الوعي التاريخاني المنفلت عن سياجات التبعية الجامدة،لأنها بورجوازية غير مؤمنة مبدئيا بالعقل لما له من سلطة في التحرير والانعتاق من قيود التبعية، وبالتالي يأتي الاستثمار في الجهل كتكتيك عملي لتعبيد الطريق أمام التماهي مع لعبة البناءات الطبقية الثابتة و الجامدة .
ومثالا لا حصرا، هذه المكتبة ليست من إنجاز الحكومة عبر وزارتها في الثقافة التي لا تقدم شيئا لخدمة قضايا الفكر والمعرفة، ولا من إنجاز الجماعة الترابية التي تأوي نخبا محلية من صنع مختبر الرجعية والنكوصية باسم محددات الانتماء إلى بوثقه الإرتكاسية التي تشرعنها أحزاب الشيخ والمريد، ولا من إنجاز وزارة الأوقاف المالكة لرساميل سمينة جدا توظفها في دعم الأضرحة وتجهيز مقابر الأولياء. إنها ببساطة رائعة من إنجاز منعش عقاري تقدم بالوعاء العقاري و بتكلفة البناء المادية من ماله الخاص إيماناً منه بأهمية الثقافة و الفكر في بناء مجتمع متحضر و عقلاني عصري؛ وهذا نموذج للبورجوازية الوطنية .
ويكفي من باب مكر التاريخ ، التذكير أن » بورجوازيتنا « ، التي لا يمكن المغامرة علميا بوصفها وطنية، لا تستثمر في بناء أو تجهيز المكتبات، ولا في دعم قطاع التربية والتعليم، أو بناء مسارح ومعاهد موسيقية .. بالأحرى تستثمر في وضع اليد على كل مقدرات بناء اقتصاد وطني مستقل عن التبعية إلى الميتروبول الصناعي الكولونيالي، من خلال احتكار كل القطاعات المعفية من الضرائب من استيراد الطاقة، نحو الفلاحة، مرورا بالعقار والبناء، نحو المأذونيات في قطاعات متعددة، وعبر ضبط السيطرة على تعليم أبنائها في معاهد البعثات وفي مدارس القناطر والجسور وفي البوليتكنيك خاصة نخب الحظ الذين يتولّون مهام تدبير الشأن الحزبي والسياسي بمنطق القبيلة والولاء للشيوخ السياسيين، وغيرها من المؤسسات المؤهِّلة للحظوة على قاعدة احتكار الثروة الرمزية من منطلق إعادة الإنتاج المادي والرمزي في تشكيل النخب. وطبقة الأثرياء هنا، لأن مفهوم البورجوازية يستعصي اعتماده منهجيا، لا يهمها إطلاقا بناء المكتبات ومعاهد الموسيقى ومسارح ودور الثقافة .. لأن من شأن كل هذه المؤسسات بناء مواطن حداثي عقلاني متحرر ومنسجم مع شروط الذتانية المنفلتة عن كل شروط الجهل المؤسس والتبعية البئيسة بما لا يخدم علاقات السخرة اجتماعيا واقتصاديا.
إن أثرياءنا عموما يستثمرون في السياحة بفنادق مخملية بالأناضول وبجزر هاواي وبمنتجعات الترف المبالغ، وبسخاء كبير جدا هناك، وعلى نقيضه لا يمكن لهم المساهمة بدرهم واحد لصالح تحفيز المدارس العمومية الحاضنة لأبناء العوز والهامش، أو من أجل بناء مكتبات هنا أو هناك لصالح أبناء القاع الاجتماعي من ضحايا إعلام التفاهة ومناهج « التكلاخ » وبرامج تسطيح الوعي الذين يضيعون بين متاهات الجهل المؤسس الذي تسنده ماكينة الثقافة المضادة .
إن الفرق، محصّلة لما سلف، شاسع جدا بين البورجوازية الوطنية المتنورة لصالح الانسجام مع حركية التاريخ، وطبقة الأثرياء ذات النفحة الأوليغارشية أو ذات الامتداد الكومبرادوري / الفيودالي القائم على النزعة الاحتكارية وعلى تعميم الجهل المركّب وتسييد الغيبوبة الفكرية و إخضاع سوق الرّعاع و الغوغاء لنمطيات البؤس القبلي والإثني والعشائري والعقائدي المنحرف بما يضمن سيطرة الأقلية المتعلمة تعليما عصريا على الأغلبية الجاهلة أو المتعلمة تعليما سيكولاستيكيا نمطيا يكرس منطق الخضوع للجهل المؤسس ويوطد عرى اللامعنى في الفهم والتأويل ضدا على قيم النسبية والعقلانية و اللغوس .
إننا مغربيا نحتاج إلى بورجوازية وطنية مؤمنة بقيم الحرية والتنوير و الفردانية الواقعية الواعية والمتجهة نحو الجماعة المؤسّسة على لبنات القانون كتعاقد مدني عصري مرن. وحسبي أنه من دون الاستثمار في العقل عبر دعم الثقافة والمعرفة الفن ، لا يمكن للمجتمع أن يبلغ المطلوب تحضرا وحداثة، رغم ما يسود من بريق لامع للحداثة المغشوشة التي لا تتجاوز حدود حداثة » الفيترينا » بمقاييس الشكل والمظهر، على نقيض الميكانزمات الداخلية للمجتمع القائمة على القبلية والعشائرية والإثنية والطائفية الدينية فِرقا وشيعا، وعلى الشيخ والمريد سياسيا بما يفرمل حيوية رحم إنتاج مجتمع حداثي عقلاني مدني عصري و مستقل .
وختاما ما دامت السياسات العمومية لدى الجماعات الترابية لا تعرف سوى الحديث عن قنوات الصرف الصحي والربط بالكهرباء والماء ودعم تعميم الدقيق المدعم وتهيئة المسالك نحو جغرافيات الهامش، و هي حتما مطالب العصور الوسطى، فإننا سنظل للأسف ضحايا مكر الجهل بعلة عجزنا عن بناء فرز طبقي سليم بمؤشر حسن تقسيم الثروة ماديا ورمزيا .
