لا تنمية بدون ثقافة ولا ثقافة بدون تنمية
المنظار
افتتحت اليوم بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة أشغال ندوة الصناعات الثقافية و الإبداعية و تحديات التنمية، ونقدم في هذا السياق الكلمة التي تقدم بها الأستاذ محمد الدرويش رئيس مؤسسة فكر للتنمية و الثقافة و العلوم في افتتاح أشغالها
ايتها السيدات ايها السادة
ننظم هاته الندوة في سياقات دولية ووطنية:
اما الاولى فالعلاقات الدولية المتوترة والتي انتهت بشن روسيا الحرب على اوكرانيا وما تخلفه من ويلات ودمار انساني في المنطقة بل انها تمس دول اخرى بسبب التبادلات التجارية بين هاته الدول و باقي دول العالم و منها المغرب. حرب ستجر الويلات على كل دول العالم بسببها وبسبب المخاض الذي يعيشه العالم
بعد كوفيد 19 اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وثقافيا. وثانيها فكون اهتمامنا وتنظيمنا لهاته الندوة الوطنية سببه الأساس ايماننا بان الصناعات الثقافية والإبداعية مدخل من مداخل النمو الواعد لكونها تشكل مكونا من مكونات الاقتصادات الدولية شريطة بناء تعاون بناء بين القطاعين العام والخاص، وانطلاقا من كون واقعها سجل شللا بسبب جائحة كوفيد 19 الشيء الذي أضر بحياة الثقافة والمثقفين والابداع والمبدعين والفكر والمفكرين والفن والفنانين. وهو ما دفع اليونسكو لاتخاذ قرار تاريخي بدعوتها لجعل سنة 2021 سنة دولية للاقتصاد الابداعي من اجل التنمية المستديمة، اذ كان لمبادرات الافراد تأثير قوي على قرارها هذا فالاقتصاد الإبداعي يساهم بنسبة 3% من الناتج المحلي الاجمالي الدولي وهو قطاع يوظف ما يقارب 32 مليون شخص في العالم، وهو يدر ما يقارب 2500 دولار أمريكي سنويًا ويساهم في تشغيل عدد كبير من الشباب الامر الذي حدا بمجموعة من الدول لايلاء عناية خاصة بهذا المجال باعتبار الابداع من صناعات الغد، وذلك بالرفع من نسبة مساهمات الناتج المحلي الاجمالي الى 5% خلال العشر سنوات المقبلة، ودعم مبادرات تربط بين المفكر والمبدع والمهني والاقتصادي كما حصل في الامارات المتحدة مثلا، وهي قرارات تنفذ التوجه الاممي لمقتضيات السنة الدولية للاقتصاد الابداعي من اجل التنمية المستديمة.
واما على المستوى الوطني فإننا ننظمها:
– أولا في فضاء مؤسسة جامعية من مهامها التفكير والتاطير والبحث والتكوين؛ وفي إطار انفتاحها على المحيط يتم تنظيم هذا اللقاء الوطني الهام.
– ثانيا بتزامن مع رغبة المسؤول الحكومي في تنفيذ مقتضيات النموذج التنموي الشامل حتى يتمكن المغرب من تجويد حياة المواطنات والمواطنين وتوفير الخدمات الاجتماعية والثقافية وغيرها بما يلائم حاجياتهم المتطورة والمتجددة ؛ رغبة نتمنى ألا تقوم على أساس اختزال التنمية في النمو الاقتصادي، دون ايلاء المسالة الثقافية المكانة اللائقة بها لتجاوز المعيقات ذات الأصل الثقافي التي ينمو الإنسان في إطارها ويتطور،
– ثالثا في وقت لم تعد الثقافة بكل مكوناتها وتجلياتها تلق ذاك الاهتمام والعناية اللائقين بها؛ سواء في المؤسسات الحكومية أو المدنية رغم المجهود المبذول،
– رابعا وحياتنا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية تستعيد بعضا من عافيتها ببطئ لكن بإحساس عميق بالمسؤولية الملقاة على كل واحد منا بعد ما عانيناه جميعا من معاناة وانعكاسات شملت كل مناحي الحياة فزاد تشبثنا بالحياة والحرية الفردية والجماعية وزاد معه اصرارنا على بذل المجهودات الضرورية من اجل غد افضل ينعم فيه المواطن بالكرامة والعدالة الاجتماعية والحرية على اساس الوعي بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل واحد منا مع نفسه ومع غيره ومع وطنه فالمواطنة حقوق وواجبات.
واما السياق المشترك بين الدولي والوطني فتنظيمنا لها يوم 8 مارس الذي يصادف اليوم العالمي للمرأة وهي مناسبة لنتوجه للمراة المغربية اما واختا وزوجة وصديقة وزميلة باحر التهاني واصدق المتمنيات بالصحة والراحة مع تجديد التزامنا الراسخ بالدفاع عن حقوقها كاملة اقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا وسياسيا. وباسمكم جميعا نهدي المراة المغربية ورود المحبة والتقدير والاعتزاز بالادوار التي تقوم بها في كل المجالات والمستويات والقطاعات.
أيتها السيدات، أيها السادة ؛
تُعدُّ الثقافة في مختلف التصورات النظرية الفلسفية والأنتربولوجية نسقا وسيطا بين الإنسان والواقع الذي يُحيط به، بمعنى أنها آلية لتحويل وتنظيم الأخبار التي تتصلُ باللغات على اختلاف أشكالها مثل لغة الفن والأدب والتشكيل والسينما والعمارة، وغيرها من الإبداعات التي تهم المادي في تجلياته المختلفة واللا-مادي في تعبيراته المتنوعة.
كما ترتبط الثقافة بمفهوم الذاكرة الذي يسهم في تحديد الثقافة انطلاقا من أن الذاكرة تُسهم في ترجمة ماضي الخبرة التاريخية إلى نصوص ولغات وتعبيرات متنوعة.
والثقافة المغربية من هذا المنظور تمثل خلفية رئيسة وفاعلة لممارسات الإنسان المغربي في علاقته بالمجتمع والتاريخ انطلاقا من صرحها الذي تُشيده المكونات العربية الإسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية وتغنيه الروافد الإفريقية والأندلسية والعبرية والمتوسطية.
وقد تجلت هذه المكونات والروافد على مستوى الإبداع الثقافي المغربي في عصوره المختلفة، وفي تعبيراته المتنوعة مثل الحكاية والعمارة والشعر وأشكال الفرجة والتشكيل وغيرها من الأنساق الثقافية.
إن الإشكال المطروح اليوم على الثقافة المغربية هو كيف تواجه إشكالات العولمة والتعليب والاستيلاب التي تفقد الإبداع الثقافي هويته وقدرته على الفعل داخل الواقع وكيف تنتقل من عناصر ثابتة إلى عناصر فاعلة ومساهمة في التنمية على المستوى المجالي والقطاعي والوطني؟
إن تثمين الثقافة رهين أيضا بالصناعات الثقافية والتي تمثل الأنشطة الهادفة إلى إنتاج وإعادة إنتاج وتوزيع واستهلاك المحتويات التي تتميز ببعد فني وذات حمولة رمزية.
وقد تبلور إلى جانب هذا المفهوم أيضا، مفهوم «الصناعات الإبداعية» الذي يشير إلى القدرة على توليد أفكار جديدة في مجال الثقافة. إنها تسهم في إمكانية إعادة إنتاج محتويات رمزية تتقيد بحقوق الملكية الفكرية والأبعاد الأصلية في المحتويات الثقافية، وهكذا يتوسع مجال الفعل الثقافي من الأنشطة المعروفة مثل السينما والموسيقى وفنون الفرجة والإنتاج التلفزي إلى الأنشطة الإبداعية في مجال العمارة والموضة والصناعة التقليديىة.
إن إدماج الثقافة في التنمية يتوقف على الوعي بهذه الإشكالية لتسجيلها ضمن السياسات العمومية والتوجهات الاقتصادية والمخططات التي تنظم الجانب التشريعي للدعم والمواكبة وإنجاح إدماج المنتوج الثقافي في سيرورة التنمية على مستوى المجالين وفي سياق الاختيارات الرئيسة للبلاد وخاصة اختيار الجهوية بصفتها رافعة للتنمية.
وفي سياق هذه الرؤية، يمكن للصناعات الثقافية والابداعية او الاقتصاد البرتقالي وفي ضوء تصورات اليونسكو، أن تنعش القطاعات الإنتاجية التي ترمي إلى إبداع وتطوير وإنتاج وإعادة إنتاج وتثمين الخيرات والأنشطة التي تتميز بمحتوى ثقافي أو فني أو تراثي على أساس أن يكون لهذه الأنشطة، إضافة إلى قيمتها الاقتصادية، قيمة اجتماعية تُسهم في الرخاء الاجتماعي.
إدماج إشكال الثقافة والتنمية في صلب النقاش العمومي، سيتيح الفرصة للفاعلين لطرح التصورات الكفيلة بالإجابة على الأسئلة من مثل:
– ماهي الترتيبات التشريعية والتنظيمية الساعية إلى تثمين المنتوج الثقافي؟
– كيف تسهم الثقافات الصناعية عبر الإنتاج وإعادة الإنتاج والتوزيع في إدماج الثقافة في سيرورة التنمية ؟
– كيف يمكن أن تصبح الثقافة عبر الصناعات الثقافية والابداعية عنصرا فاعلا في تنمية الجهات والمجالات ؟
وأمام التطورات العميقة التي طبعت الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوليا ووطنيا وأمام الاهتزازات السياسية والمجتمعية التي عرفها وما أفرزت من مظاهر اجتماعية و ثقافية، برزت من جديد مطالب العناية بالإنسان عبر المؤسسات الاجتماعية والثقافية انسجاما مع ما يطبع المغرب من غنى و تعدد وتنوع في ثقافته التي تجمع بين الثقافة العربية والإسلامية والامازيغية والحسانية واليهودية والإفريقية والمتوسطية مما يجعل منه دوما وطن التسامح والحوار والتعايش والتضامن والانفتاح ومن ثم لا يجوز التفريط في هاته الخاصيات التي تعد نقط قوته ومكان احترام وتقدير دوليين.
لكل ذلك فإننا ندعو إلى ايلاء أهمية قصوى للمسالة الثقافية في إطار معالجة شمولية وشاملة يجعلنا أمام نهضة ثقافية متجددة تتجاوز العجز البنيوي الذي يمكن أن يكون أصاب مجتمعنا بكل مكوناته ومستوياته، لذلك اخترنا أن نسمع عدة أصوات رغم التعدد والاختلاف قلب الوحدة الموضوعية والتي تجعل من الثقافة عصب الحياة الذي يربط بين الماضي و الحاضر بالمستقبل ، و بالمناسبة فإننا:
– أولا نوجه نداء للمثقفين للعودة المستعجلة للقيام بالأدوار التنويرية و التاطيرية للمجتمع و اخذ الريادة في ارساء دعائم النموذج التنموي .
– ثانيا ندعو الحكومة وعبرها الفاعل السياسي والترابي والاقتصادي والمدني إلى ايلاء عناية خاصة بالشؤون الثقافية والمثقفين وبالفكر والمفكرين والابداع والمبدعين وذاك في نظرنا العمود الفقري لكل تنمية وتقدم وتطور. لان الثقافة ليست علما ضيقا ولم تكن صنفا من أصناف الدراسات الأدبية أو غيرها وإنما كانت دوما وتظل تتجسد في أخلاق وكلام وممارسات واطروحات ومعيش يومي لأناس بصموا تاريخ البشرية في هذا العالم إنها إطار يجمع بين الفكر والممارسة؛ ومن ثم تكون المسالة الثقافية إحدى رافعات السياسات التنموية الشاملة والمتكاملة؛ لأنه لا تنمية بدون ثقافة ولا ثقافة بدون تنمية؛
و التحية والتقدير في البدء و الختام