.فكيف ينزف الغريب يا صاح ؟
د. سعيد ألعنزي تاشفين
إن الغريب لا يكتب الحرف كما تكتبون ، و لكنه عندما يكتب كأنه ينزف دما و اغترابا ، حبرا تعصره الحشاشة فينزوي قطرة قطرة ، و عهد قديم لا يخرج إلاّ من خاصرة تراب نخرته مواسم اللوعة و التحذير على حظوة الراحلين ، و ذاكرة مثخنة بدمع المواعيد البكر التي رحلت معهم فانتهى بصيص اللقيا ، و الغريب يا صاحبي لا يكتب ليسأل عن غربته و اغترابه ، لا يسأل عن أمس ممشوق بالدفء انتهكت حرمته، لا يسأل عن حنطة منسية في ركن ما، ولا أوبة وشيكة؛ بل يكتب عن مشاعر تلفّ كل الزوايا المتعبة رويدًا رويدَا على أهبة التعب الكبير .
الغريب ينبض كالكون بلا همّة، ووجده و لوعته أفصح من كل الأبجديات بلا رتابة، ويحمل مواثيق اليتامى على دمه عهدا لا ينفكّ من هوس التعب الكبير، يحمل كل مكابدة الجوعى وأنين المقهورين على عتبات العمر الفقيد وحلم الشهداء بمقبرة منسية متشردة على مشانق الحدود الفاصلة بين الوطن والعدو، هو اعوجاج المسير دون وجهة يرتضيها .
الغريب جريح في متاهات المنفى بنبض الوطن ، و أسير المواعيد و العهود والمواثيق الثكالى. قالت شذرة إن الغرباء توضأوا من النبع واغتسلوا من فيض مدامعهم ثم صلّوا صلاة المنسيين بمحراب ظمإ يجيء من سدرة المنتهى، فقالت سنبلة نحن مثله نشرب من لوعتهم فجر القداسة ثم نشيخ خلسة من نبضنا ، فإذا بالسماء تتهيأ لتمطر على محيا اغترابنا؛ فننتظر !! متى متى ؟ و يستمر البوح على مشارف الحلم .
تجاعيد الرحلة الكبرى دفنت كل التفاصيل في بوتقة انتماء واحد ووحيد نحو مستقر الغرقى، فطنة الحواشة صامتة، أحجية الأمهات سامرت كل الصغار الذين شاخوا من نكد المسافات، و الثورة صمت سحيق بين مكابدة الإنطفاء وولع المغنين مواويل العشق في زمن يموت فيه الأنبياء و يقتل العشاق، والحيارى يستأنفون حيرتهم الكبرى، غبش الدروب الملتوية بأحشاء القصر القديم ينتشل فضل الغفيلة، و هكذا يحمل الغريب تنهدّ استواءه على سديم الهروب نحو حضن الليل الوديع يتعانقان بدفء، يمارسان الحكايا والبوح ، يذكّران بعضهما بثقل العهود ؛ وينطقان قولا ثقيلا :
فلا تسَل يا صاحبي غريبًا عن غربتهِ .