اكتب… كي تخلد

اكتب… كي تخلد
شارك

بقلم سدي علي ماء العينين

فيما تجدي الكتابة، وفيما تجدي الكتب، ؟ وما الفائدة من البوح ، وما الفائدة من القول؟

عندما تكون مسكونا بهوس الوجود ، تحاصر كل ما حولك بالأسئلة لعلك تجد تفسيرا او تقدم توضيحا لكل ما يحدث ويجري،

أحيانا تمل من طرح الاسئلة وتبدو غير مقتنع بالأجوبة،  لأنك أصبحت أسير هوس الوجود،

 لكن ماذا لو تعاملت مع الامور بشكل مختلف، فالعالم شاسع وواسع ، وتركيبته معقدة ومتشعبة،

 عندما تريد أن تقود حركة إصلاح ستدرك لا محالة انك لو امضيت عمرك كاملا تجوب بقاع العالم فلن تحصد من حركتك غير الريح، ولو اكتفيت بدق أبواب كل من حولك في حركتك الاصلاحية، فلن تجني الا الفتات،

لذلك فإن اكبر الانتصارات،  واعمق الاصلاحات تلك التي نحققها على انفسنا،  وبصلاح الفرد يصلح المجتمع، و الشخص السوي لا يقدم نفسه للعالم أنه قدوة ، لكنه يقدم نفسه لنفسه أنه قادر على أن يجعل في صلاح نفسه صلاحا للعالم من حوله.

عندما كان هذا الكون واقوامه محتاجون إلى دعاة و ناصحين ومصلحين كان يبعث الله فيهم رسلا و انبياء، وعندما اكتمل بناء الانسان في الادراك والوعي،  ارسل الله خاتم الانبياء الذي ترك فيهم ما  ان انتبعوه الا وصلحت دنياهم ونالوا في الاخرة جزاء ما يفعلون،

فلا حاجة للمرء أن يتسلق القمم ليرى ما حوله، ولا أن يحلق في السماء ليرى من في الارض، فمن حكمه تعالى ، انك كلما حلقت عاليا بدت لك الاشياء صغيرة غير مرئية، و بذلك يكون تحليقك ابتعادا وليس سموا .

و في هذا العصر ابتلينا بالات كالهاتف والتلفاز تجعلنا  نرى العالم البعيد ، لكننا غافلون عن رؤية الواقع من حولنا،  ولا معرفة احوال جار في البيت المقابل لبيتنا او الساكن في عمارتنا، حتى وصل بنا الامر أن نغفل عن من يسكن معنا في بيتنا.

أن الله مكن الانسان من قدرات يشترك فيها مع باقي المخلوقات،  وهي الاحساس، و القرب الذي يولد المشاعر وينمي الادراك و يخلق التنافر كما يخلق الانسجام ،ويخلق التكامل كما يخلق الصراع،

 هنا تبدو بعض مظاهر العصر اشبه بالنفاق، كان تنصب نفسك مناصرا لقضايا كونية ونزاعات عالمية ، أو تنصب نفسك متخصصا في الشؤون الدولية، والحال انك في المقابل عاجز عن فك  طلاسم كثير من الوقائع التي تدور من حولك، و فهم الكثير من السلوكات التي تحدث بجانبك ومعك.

إن النحل يدرك أن بالعالم خلايا تنتج نفس ما ينتجه، لكنه له خاصية لو تملكها الانسان لكان للكون معنا اخر ، وهو أن النحلة  تدرك بالفطرة أن دورها في الوجود ان تعمل في خليتها وأن لها ملكة متوجة بلا انتخاب، وليس لها ان تقبل بها او ترفضها، كما ليس لها ان  تغادر الخلية، لانها ما خلقت لغيرها، ولا أن تمتهن مهنة أخرى لأنها خلقت لإنتاج النحل.

فماذا لو أن الانسان حكم وجوده بهذا المنطق، وبدل إن يعاند محيطه ، أن يعيش فيه بالجد والعمل، و أن يدرك أنه مهما علا شانه خارج وطنه و محيطه فإنه يجني نجاحا زائفا ، ويصنع لنفسه عالما مهما حقق فيه النجاحات فإنه ليس عالمه.

تاملوا لاعبي الكرة ،من مختلف الرياضات، مهما احترف فهو في الاخير مجرد كائن مرحب به لما يعطيه وما يقدم، وما إن يتوقف عن العطاء يستغنى عنه ليتم استقدام غيره،

لكن في خليتك ووطنك فمهما توقف عطاءك فإن كل من حولك لا يرمون بك إلى سلة المهملات بل يحتضنونك بحب وبإخلاص للروابط الذي تجمعك بهم ،ببساطة لأنك منهم واليهم.

وما لم نستفده من نحلة لا تغادر خليتها نستفيده من طير مهما رحل وارتحل وطار وجال، فانه يعود إلى وطنه ، وكأن كل ريشة من جناحه تنادي وطني وطني …

عندما تلج الغابة فإن اهم ما يثيرك فيها اصواتها،  النباتات تتكلم، والحيوانات تحدث اصواتا وحتى الحشرات وهي تزحف او تطير تحدث اصواتا،

الانسان هو وحده الكائن الذي لا يحدث صوتا الا اذا التقى بغيره ليخاطبه ويكلمه ويحاوره،  وكلما كلم نفسه اتهم بالحمق او الهلوسة.

وهنا تأتي الكتابة لتكون صوتا في صمت،  و تعبيرا جسديا خارج تعبير الاعضاء،

  تكتب لنفسك لتبوح و تغوص في بحور الاسئلة والبحث عن الاجوبة،  لكنك أيضا تكتب لغيرك لأنك لا تستطيع أن تخاطب كل الناس فردا فردا الا في إطار محدود ، كما لا تستطيع أن تخاطب مجموعة الا في إطار تجمع محدود  في الزمان والمكان،

وبالكتابة تخاطب كل الافراد والمجموعات،  وفي كل الامكنة والازمنة،  لان الكتابة خالدة ، والحرف منقوش، و الكلام مدون، وكما يسافر الطير تسافر الكلمات، وكما تشتغل النحلة تشتغل العبارات والمقالات لتنتج المعرفة التي لا تحدها حدود ، ولا ترتبط بمكان ولا زمان.

لكن السؤال هو حول ما نكتب، ولمن نكتب؟  فقصاصات الاخبار ترمى في سلة المهملات، لان دورها محصور في الاخبار، و تموت بموت الخبر، وتكتب لمن هم معنيون بالخبر.

لكن عندما تكتب افكارا،  فهي لا تموت، و اذا كانت تعني فئة في المجتمع، فإن خلودها يجعلها باقية لمجتمعات ستاتي فيما بعد ، ولنا فيما نقراه من كتب الاسلاف خير مثال، و في افكارهم التي تسري بيننا سير الدماء في العروق ، توجهنا و ترشدنا و تكون دليلنا في الحياة،

فاكتب للإنسان،  و كن إنسانا في كتاباتك ، ومارس بوحك ليسمع صوتك ويخلد، وتذكر دوما، أن الكتابة كلام تصدح به ، فقل خيرا او اصمت ، واكتب ما ينفع الناس او كسر قلمك ومزق ورقك وارمي بأحرفك بسلة المهملات،

الكتابة قداسة،  والحرف كالنحلة لا يجب أن ينتج غير العسل، وكما في العسل شفاء لكل داء، فإن الكتابة دواء للكاتب وهو يبوح و شفاء للمتلقي وهو يعتبر .

فهل تعتبرون؟

admin

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *